منذ ثلاثة أشهر تقريباً وأنا أرفض دعوات الأصدقاء للسهر والتجمع وتبادل أطراف الحديث ليلاً ، وربما هذا لانشغالي بأمور متابعة ابني الصغير في مذاكرته ، أو الغرق في بحور الكتب وإدمان القراءة ، أو بالكتابة إلى الصحف والمجلات التي أجد فيها متنفساً خصباً ،أو بالتأليف وكتابة أبحاث متخصصة في مجال المناهج وطرق التدريس التي لا يقرؤها أحد إلا المتخصصون الذين اعتادوا النقل والاقتباس دون الرجوع إلى المصدر الأصلي، ولكن هذا الشهر الأمر اختلف كثيراً ، تحديداً حينما دعيت باتصال هاتفي لخوض انتخابات جمعية الشبان المسلمين وضرورة الترشح في انتخابات مجلس إدارتها ، والتي كنت ولازلت عضواً بها تقريباً منذ ثمان وثلاثين سنة حينما كنت تلميذاً بالصف الثاني الابتدائي ، وأذهب إليها بصحبة أخي الذي يكبرني بأربعة أعوام . وعادة ما يكون خروجي ليلاً إما لقضاء أمر شخصي أو عائلي ، أو الذهاب إلى مهمة محددة كمقابلة تليفزيونية ثقافية عادة ما لا يشاهدها أحد سوى أفراد أسرتي ،أو بعض أصدقائي المخلصين المهتمين بشئوني بعض الشئ ، وحقيقة رغم أنني كما أظن أنتمي لعقد الشباب الذي أطمح ألا ينتهي أو يمر من بين أصابعي بسهولة إلا أنني حينما أسير في الشوارع أجدني رجلاً عجوزاً ذا عقلية متخلفة ترفض الجديد الذي أراه ويبدو غريباً لي . فبينما أجدني مهتماً بأمور تبدو لأقراني عجيبة مثل المذاهب الفلسفية في القرن الرابع الهجري ، أو مشكلات حادة في الفكر الإسلامي كمحنة خلق القرآن وفتنة الإمام أحمد بن حنبل ، أو الاهتمام بالأحداث السياسية المضطرمة التي تشهدها بلادي منذ سنين ، أرى أننا شاركنا جميعاً في تهميش شباب وشابات هذا الوطن سياسياً وجاهدنا سوياً في تعميق الفجوة والهوة السحيقة بين عقولهم البكر وبين منابع ومصادر الثقافة التي بالغنا في حمايتها وبالغنا في الإعلان بأننا وحدنا الذين نملك صكوكها وحق تداولها وإذاعتها. وهذا التخلي المقصود عن مهمة توجيه الشباب هو الذي دفعهم متجهين نحو شبكات التواصل الاجتماعي للتعبير عن مشاعرهم واتجاههم الرافض لنا ، وهذا من حقهم لأننا قصرنا في إتاحة مساحة كافية لهم للتعبير عن وجودهم وحضورهم الفعلي في حياتنا التي هم شركاء فيها . ولكن رغم هذا التقصير الذي يبدو من جانبنا إلا أن التغيرات الاجتماعية الوافدة قد عصفت بقيم وتقاليد المجتمع وعاداته سواء من ناحية استخدام هؤلاء الشباب للغة التي فرغت تماماً من العربية الفصيحة وتبدلت إلى الحوشي من القول بل وبذاءة المفردات التي ساهمت بطريقة غير مقصودة في إفساد الذوق اللغوي العام للمجتمع ، وكأنهم قرروا أن يتواروا بهذه اللغة الحوشية بعيداً كما تعلمنا في مقعد الطالب بالجامعة أن اللغة مرآة العقل فما بالكم بعقول هؤلاء ؟ الأمر الثاني الذي يستحق الرصد المجتمعي حقاً هو الملابس التي يرتديها هؤلاء الشباب والشابات على السواء ، وإذا سنحت لك الفرصة فسألت شاباً عن سر ارتدائه لهذا البنطال العجيب الساقط لسلوكه يحكي لك قصصاً أن البنات والصبايا يرغبن في رؤية الشباب في هذه الصورة التي أراها ويراها غيري مبتذلة كل الشئ وليس بعضه . أما إذا كنت من أصحاب الحظ وجلست وسط حفنة من شابات هذا الزمان العجيب بملابسهن الأكثر عجباً وغرابة بألوانهم غير المتناسقة والمتباينة وطريقة تصميمها أيضاً فلسوف يشرن مباشرة إلى أنه لولاً هذه الملابس لما التفت إليهن هؤلاء الشباب ، كما أن بعضهن قد تجاوزهن قطار الارتباط الزوجي وتقادم بهن العمر الطبيعي للزواج فليس هناك بديل للارتباط سوى تسليط الضوء عليهن بشدة لعل وعسى يقع الشاب في شَرك الزواج بهن . وأثناء مرورك أنت بالشارع أو بأحد الميادين العامرة بالباعة المتجولين تتأكد أنك فعلاً من المنتسبين للعصر الفاطمي أو العهود المملوكية نسبة إلى المماليك ، فبينما اعتدت أن تسير بخطى وئيدة تجد من يقفز بجوارك ومن يركب دراجة وكأنه يمتطي جواداً هائجاً ، وهذه احترفت الجلوس وسط الشارع لبيع منتجات ريفية بطريقة تجعلك تنفر من السلعة والعارض نفسه. والحقيقة التي لا بد وأن يعترف بها الجميع هو قصور مؤسسات كثيرة في القيام بأدوارها حق القيام بدءاً من المنزل الذي بدا مؤسسة بيروقراطية روتينية ، مروراً بالمدرسة والجامعة والمؤسسات الدينية وكذلك كافة وسائط الإعلام المهووس حالياً بقضايا السياسة والانتخابات وصعود التيارات الدينية في ظل تراجع الأحزاب التقليدية وسقوط الليبراليين بنظرياتهم الأيديولوجية . وفعلاً مصر ليست بحاجة إلى ظواهر اجتماعية بعيدة عن تقاليدنا وعاداتنا وعرفنا التقليدي حتى نقوم بتقويمه بسلاح الدين وكأن الدين الحنيف أصبح رد فعل وليس فاعلاً ومحركاً لمجتمعه . فكان ينبغي ، أو من الأحرى أن تهتم مؤسسات المجتمع المدني بتوجيه وإرشاد الشباب الذين أصبحوا عرضة للتيارات الوافدة التي تسعى لتقويض المجتمع المصري وأخلاقة الرصينة ، ولعل هذا يعد فرض عين علينا جميعاً ، وألآ تأخذنا الأمواج السياسية لتجرفنا بعيداً عن هؤلاء الذين نعد الدستور لهم ونشيد برلماناً جديداً لهم ، ونبني وطناً صالحاً بعد فساد استقر وتغلغل حتى رحل بعيداً ، رغم أنني أشك أنه رحل نهائياً ...