رغم تشكيك الكثير من العلماء فى إمكانية فهم كيفية عمل العقل الإنسانى عن طريق المقارنة بينه وبين النظام الرقمى الذى يتبعه الحاسب الآلى، أعتقد أن مثل هذه المقارنة قد تكون مجدية فى إطار محاولة تلخيص وتجسيد نوع الكوارث الناتجة عن نظام التعليم والخطاب العام فى مصر، والمآزق المترتبة عنهما فى الداخل وفى علاقتنا مع الخارج. منذ عودتى للإقامة والعمل فى مصر، أتيحت لى الفرصة للتواصل عن قرب مع الطلاب الدارسين للعلوم الطبيعية- بالذات فى مجال الفيزياء- خلال المراحل الأخيرة من الشهادة الجامعية الأساسية (البكالوريوس)، وأيضا فى مرحلة الدراسات العليا.. البعض كان على مستوى جيد، لا يقل عن مستوى معظم نظرائه فى الجامعات الغربية الجيدة، فكانت معلوماته كاملة ومهاراته التحليلية عالية، ويستطيع المقارنة والربط بين الظواهر والأفكار والنظريات المختلفة التى تعلمها. وكما يحدث فى كل مكان، كان من الضرورى أن تجد أيضا نوع الطالب الذى لا يجيد أيا من الأشياء المذكورة، لكن ما شد انتباهى فعلا هو انتشار نوع ثالث عندنا، نوع لديه كم هائل من المعلومات لكنه لم يستوعبها ولا يقيمها بطريقة نافعة، ولا حتى يتذكرها، إلا ربما (فى بعض الحالات) إذا تم سؤاله عنها بطريقة مباشرة، عن طريق تذكيره بالصورة طبق الأصل التى ظهرت بها تلك المعلومات فى المنهج الذى نجح فيه بتقدير عالٍ. هذا النوع من الناس يشبه جهاز ال"كمبوتر" السليم من ناحية ال"هاردوير" لكنه- فى أسوأ الحالات- لم يتم تنزيل نظام تشغيل (كال"ويندوز" مثلا) عليه، فهو مجهز ب"هارد ديسك" شغال، تم شحنه بكم هائل من المعلومات التى لا يمكن استرجاعها، لأن نظام التشغيل، الذى لا يمكن إلا من خلاله فتح الملفات التى تحتوى على تلك المعلومات، ليس موجودا أو لا يعمل.. أما فى أحسن الأحوال، فإن عقل مثل هذا الطالب يشبه الكمبيوتر الذى يحتوى على نظام تشغيل منقوص، لأنه يفتقد ال"سوفت وير" الذى يمكن نظام التشغيل من ربط تلك المعلومات الجديدة بالأخرى الموجودة فعلا، وهذا هو المطلوب فى عملية إنزال (أو "تسطيب") برنامج خارجى وتشغيله. فى هذه الظروف يصعب تطوير ذلك الكمبيوتر عن طريق استقطاب برامج جديدة، فى سبيل مشاهدة الصور المتحركة أو الاستماع للموسيقى أو لعب ال"فيديو جيمز" مثلا، ناهيك عن محاولة استخدامه لإيجاد حلول رقمية للمعادلات الرياضية المعقدة فى مجال العلوم الطبيعية مثلا.. أى أنه كمبيوتر بلا فائدة عملية فعالة، بل إنه يشكل خطرا على نفسه وعلى الكمبيوترات التى يتواصل معها عن طريق الإيميل والإنترنت، لأنه يفتقد البرمجيات المضادة للفيروسات أيضا، فلا يفرق بين البرامج المفيدة القادمة إليه والأخرى المدمرة، لأن قدراته تقتصر على تحصيل المعلومات وليس لديه قوة تحليلها أو الربط بينها أو تفنيدها ونقدها فى سبيل رفض المضر منها. وإذا سرنا فى سبيل مقارنتنا "الحسوبية" حتى النهاية، سنجد أن هناك مشاكل إضافية تواجه التعليم المصرى. فما يعقد الأمور فعلا هو عدم وجود نظام تعليم مصرى واحد، إنما هناك فعليا عدة أنظمة، حكومية وخاصة وأجنبية، يستقر كل تلميذ فى أحد منها طبقا لمؤهلات أسرته الاجتماعية والمالية.. فى مجال الكمبيوتر، يعنى ذلك أن هناك مجموعة من الحاسبات التى تحتوى على أنظمة تشغيل مختلفة، بعضها من طراز ال"ويندوز" مثلا والآخر من أنواع مغايرة، مثل ال"الأبل ماكنتوش" أو ال"يونكس"، ومن المعروف أن فى مثل هذه الحالات يصعب الربط بين هذه الأجهزة، فى سبيل إنشاء شبكة متكاملة فعالة، تتيح التواصل المباشر بينها وتسهل تبادل المعلومات والبرمجيات الموجودة لدى عناصرها، فى سبيل الاستفادة منها فى عمل جماعى تصبح خلاله كفاءة الكل أكبر من كفاءة مجموع الأجزاء. كما يحدث مثلا فى مجال الحسابات الرقمية "المتوازية" العملاقة، التى توزع الحمل الحسابى على مجموعة كبيرة من الحاسبات المرتبطة ببعضها. إذا نقلنا هذا الوضع للسياق الاجتماعى، سنجد أن النتيجة ستتجسد فى مجتمع متفكك لا يجيد العمل الجماعى، بل لا تتفاهم أو تتلاقى أو تتواصل أجزاؤه المختلفة إلا بصعوبة.. وما يزيد الطين بلة هو أن ال"سيرفر" الرئيسى الحكومى المنظم للشبكة لا يتعامل مع الأنظمة المختلفة بالمثل، ولا يحاول التوسط لمد جسور التواصل بينها، لكنه يدعم بعضها ويتجاهل البعض الآخر ولا يتفاهم معه. وال"سيرفر" المركزى يريد أيضا احتكار كل تعاملات شبكته الفوضوية مع الخارج، لتكون كلها عن طريقه، ودائما ما يحاول تزويد الكمبيوترات المحلية، التى يسيطر عليها، بمعلومات وبرامج تؤكد أنها فى صراع دائم مع الشبكات الخارجية الخطيرة المتآمرة، ذلك فى سبيل التمويه عن حقيقة أن معظم الفيروسات التى تصيبها متداولة داخليا، وأن الإصابات جاءت نتيجة افتقادها لبرمجيات المناعة، التى كان يجب أن يوفرها هذا ال"سيرفر" بدلا من لوم الخارج.. وينظر هذا الخارج لتلك الشبكة الفوضوية بارتياب، لان أمراضها مضرة له أيضا، لكونه مرتبطا بها لا محالة عبر ال"نت"، فيطالب بإصلاحها، فيرد "نظام السيرفر" عندنا هاتفا: "شفتم، مش قلتلكم.. مؤامرة خارجية جديدة أهه!".