شاهدت من يحاولون أن يعيشوا الماضي في الحاضر، فيلبسون سلاسل تحمل صورة القذافي ويحيطون رقابهم بالشالات ذات اللون الأخضر، رجالاً كانوا أو نساءً، فتيانًا وفتياتٍ. سمعت من يتحدث عن القذافي وكأنه ما يزال حيًّا، ويمجد أيامه ويبكي عليها، وهو يعتقد جازمًا أن تلك الأيام ستعود ويقول "بإذن الله". وقرأت العديد من الكتابات التي تسعى إلى إحباط نفسية الليبيين، والتقليل من إنجازهم الثوري الحضاري، والعمل على إقحام نظرة المؤامرة- أمريكيه فرنسية بريطانية- نفذها على أرض ليبيا مجموعة من الحاقدين على معمر القذافي ونظامه من عناصر إسلامية متشددة كانت قابعة في سجون القذافي، بل وصل الأمر إلى أنهم يطلقون على كل من انضم للثورة وساندها ووقف معها "ثوار الناتو"، و"عملاء الغرب" و"خونة ليبيا". هكذا يعيش هؤلاء في هذا الوهم الكبير، ومهما ناقشتهم فهم لا يقبلون، بل إنهم عقولهم وقفت مؤشرات دورانها عند فترة ما قبل 17 فبرير، ولا ترضى أن تصدق أن هناك ثورة أطاحت بنظام قمعي فاسد. وفي محاولة مني لإيقاظهم من سباتهم وحلمهم وسيطرة عقلهم الباطن، أحاول أن أنبههم إلى الحياة التي نعيشها ونذكرهم بفساد الماضي أيضًا من خلال بعض الوقفات المهمة؛ لعلي أسهم في إيقاظهم وعودتهم إلى الواقع قبل أن يفقدوا عقولهم ويدخلوا في مرحلة هوس تجعلهم يتصرفون بجنون ضد وطنهم، معتقدين أنهم يسعون إلى تحريره، وهم لا يعلمون أنهم يسعون إلى التخريب والتدمير: الوقفة الأولى: أنتم يا سادة، أدرى الناس بالقذافي ومجموعته وأبنائه، كنتم قريبين منهم، ومنكم الكثير- إن لم تكونوا جميعًا- شاهد وقائع اغتصاب فتياتنا البريئات العفيفات من قبل القذافي نفسه وأبنائه وأعوانهم، وأنتم تعرفون السرقات والنهب لأموال ليبيا من قبل هؤلاء، ومنكم أيضًا الكثير من يعلم ما كان يحدث من انتقامات وتعذيب ضد الليبيين، خاصة من كان يخالف القذافي في الرأي، وأنتم أيضا من تعرفون أنه يدعي الدعوى للإسلام ويعمل عكسها تمامًا ولا يتقيد بآداب ولا أخلاقيات، بل إنه تعدى على أوامر الله ورسوله وقواعد الشريعة الإسلامية، والغريب أنكم تعرفون ذلك جيدًا. وأنا هنا لا أخاطب من مارس منكم أفعال القذافي نفسه، ولكن أخاطب من مازال في قلبه إيمانًا ويخاف الله. الوقفة الثانية: أنكم تدركون جيدًا أن شعبكم وأهاليكم عانوا الكثير من سياسات القذافي الظالمة، الوطن جميعه عانى الجهل والمرض والفقر والعوز في بلد تبيع في كل يوم مليوني رميل نفط ممتاز، يقوم القذافي بصرف جلها على شطحاته ونزواته التطلعية لأن يكون الزعيم الأممي الأوحد، ويكفي أن أسطر لكم حادثة يعرفها البعض منكم، وهي أن سيدكم هذا في يوم من الأيام وفي قصر القبة بالقاهرة عندما حل ضيفًا على الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، قام بمنح مبلغ مليون دولار لزوج إحدى الفنانات المصريات المشهورات لكي يطلقها؛ لأنها كانت تطلب الطلاق، والزوج يرفض، والديانة لا تسمح إلا بموافقة الزوج والزوجة لحدوث هذا الطلاق.. وهلم جرًّا. المهم أنكم تعلمون ذلك، وتعلمون أن شبابنا كان يبجث عن العمل في دولة النفط ولا يجده، وأن كثيرًا من الأسر الليبية لا تجد سكنًا آدميًّا يليق بكرامة المواطن، وأن البعض منكم كان يهين كرامة الإنسان الليبي ويدعم قريبه وابن قبيلته ويناصره في ظلم الأخرين والاستيلاء على خيرات البلاد. الوقفة الثالثة: أنتم- يا سادة- كنتم في ليبيا يوم الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر من فبراير وحتي التاسع عشر من مارس عام 2011، نعم كنتم في ليبيا وشاهدتم كيف كانت انتفاضة الشعب بالكامل انتفاضة وثورة حقيقية ضد الظلم والفساد والطغيان، ومن أجل أن يتحقق للمواطن الليبي العيش الكريم والحرية والعدالة، نعم منكم من قام بالتصدي لشباب بنغازى "القبعات الصفراء"، وفي مدن الشرق الليبي والزاوية وزوارة ومصراتة، نعم أنتم تعلمون جيدًا أنها ثورة حقيقية على الظلم والفساد. وأريدكم أن تتصوروا معي حلمًا من نوع آخر؛ لو أن قائدكم قارئ جيد للتاريخ، وعندما شاهد هو وأبناؤه الثورة الشعبية العارمة، وهو الذي يقول لنا دائمًا: إن السلطة والثروة والسلاح في يد الشعب، لو أنه أصدر أوامره لأجهزته الأمنية بعدم التصدي للشعب الثائر وخرج ليقول: أنا الآن مطمئن لأن هناك شعبًا في ليبيا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، وأنا لست رئيسًا وأترك رئاستي للقوات المسلحة، وعليكم تنظيم أموركم بالطريقة التي ترونها مناسبة، وأنا من الآن لن أمارس أي دور ترشيدي، ولو تابعه ابنه سيف وقال للشعب العظيم الثائر: أنا حاولت أن أبني ليبيا الغد، وكنت ضد كل السياسات السابقة، وها أنتم تضعون أرجلكم على الطريق الصحيح وأنا معكم إن رغبتم في ذلك، لو حدث ذلك، ألم يكن هذا هو التصرف العاقل لأي إنسان يحب ليبيا وشعبها ويحافظ عليها؛ ولكن القذافي وأسرته- وأنتم كنتم معه- كان لا يهمكم إلا أنفسكم وزعيمكم الأوحد وما تجنوه من مصالح من خلفه، في وقت لم يكن هناك مشروع لليبيا الغد، بل كان نوعًا من التكتيك السياسي لاستقطاب المعارضين للقذافي ليلتفوا حول نجله سيف الذي ينفذ أوامر والده حرفيًّا. النتيجة: يجب عليكم أن تفيقوا وأن تعلموا أن الثورة هي ثورة شعبية حقيقية، وأن المجتمع الدولي ناصر الشعب الليبي لعدة أسباب أهمها: أن القذافي وتصرفاته ومشاكله في دول العرب وإفريقيا وأوربا وكل أنحاء العالم أصبحت لا تطاق، وبالتالي ففي ظل وجود أي ثورة من شعبه فالكل سيناصرها للتخلص من هذا الفيروس الذي له آثار سلبيه في كل مكان. والسبب الثاني أن الكثير من دول العالم، الأوربية خاصة، وهي شريكة في النفط الليبي تسعي للحفاظ على نصيبها منه، إلي جانب الموقع الاستراتيجي لليبيا على البحر الأبيض المتوسط وعلى الساحل الجنوبي لأوربا، والتي تعتبر نفسها على خط المواجهة مع هذا الشخص المختل في أفعاله، وبعدها تأتي الأسباب الأخرى التي يتكلم عنها الغرب للترويج لنفسه، وهي المتعلقة بحماية المدنيين وتحقيق الديمقراطية ونصرة المظلومين في ليبيا، والتي تعتبر للاستهلاك الإعلامي فقط. وختامًا أقول: أفيقوا أيها السيدات والسادة، وارجعوا إلى عقولكم وإلى وطنكم، واعملوا على بث روح السلم الاجتماعي والتضامن مع إخوانكم، ومن منكم عليه جرم من قتل أو اغتصاب أو سرقة أموال فليحاول أن يتوب ويعمل من أجل رد المظالم إلى أهلها، ويتخلص من ذنوبه، أما الأغلبية التي أخاطبها ولا تقع في دائرة الاتهام، فعليهم أن يفيقوا ويرجعوا إلى ليبيا الأم الحنون. [email protected]