في هذه العاصفة، قد لا يسمع أحدٌ أحداً بوضوح، وقد لا يتسع المجال لغير الملاحظات اللاذعة والحشد والتجييش، ولاسيما مع لجوء الرئيس مرسيوالجماعة إلى استعراض القوة الدموي الذي دخل بالبلاد في نفق مظلم، والتهوين من شأن المعارضة والمعارضين، والإفراط في توجيه اتهامات -استهلكتها سلطة مبارك من قبل - إلى رافضي الإعلان الدستوري بالعمالة أو الارتهان للخارج أو تنفيذ مخططات مدفوعة الأجر، أو – وهذا هو الجديد –كراهية الإسلام ومعاداة الدين. وقد استهدفت حملة الجماعة أساساً رموزاً وطنية كانت رأس الحربة في تقويض نظام مبارك، مثل محمد البرادعي وحمدين صباحي وبعض الرموز الثورية الشابة، مع خلط متعمد للأوراق وإطلاق وصف "الفلول" على من لا يمكن أن يكونوا كذلك قطعاً. وفي السطور التالية، محاولة مختصرة لفهم الطريق التي وصلت بمرسي إلى مأزق وضع فيه مصر والمصريين أمام خيارات جميعها مؤلم. لقد فاز مرسي بالرئاسة بعد معركة صعبة، وبعد أداء للإخوان المسلمين خلال ثورة 25 يناير لم يكن مبرأً من النفعية والتحالفات غير الزكية الرائحة إذا أردنا استخدام أكثر الكلمات لطفاً وهدوءاً. جاء مرسي بفارق طفيف مدعوماً بأصوات ثوريين لم يكن هواهم إخوانياً، وإنما سعوا إلى منع النظام السابق من استعادة قواعده مع الفريق أحمد شفيق. وهذه الفئة هي من حسم المعركة لمرسي، وليس أصوات الإخوان والسلفيين التي لم تكن لتصعد به إلى القصر دون دعم من جانب فئات من الليبراليين واليساريين. في الخطاب الأول لمرسي بعد إعلان النتيجة، كنت ممن تابعوه بشيء من الإعجاب، والفرح بإزاحة ظل مبارك الكريه، والرغبة في أن يتغلب الرئيس المنتخبعلى التحديات التي تواجهه. وحين أزاح المشير حسين طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان كنت معه، وقلتُ لعلها الخطوة التي سيشرع بعدها في البناء بعد أن خلصت له السلطة، ولم يعد له من مناوئ يمكن أن تلتف حوله القوى الراغبة في إعاقة مسريته. توقعت أن مرسي قد فهم رسالة التصويت، وهي أن نجاحه مرهون بالجموع التي لا تنتمي إليه فكرياً أو تنظيمياً، وأنها منحته فرصة القيادة على أمل - ووعد منه -بأن يكون رئيساً لكل المصريين على اختلاف أحزابهم وانتماءاتهم كما أكَّد أكثر من مرة، وليس لجماعة أو فئة بعينها، وأن عصر احتكار السلطة قد انتهى، كدرس من تجربة إزاحة مبارك على الأقل، وأن الثورة وقد وصلت إلى هذا المنعطف –على الرغم من كل ما حدث من خلافات- يمكن أن تدخل مرحلة جديدة يتكاتف فيها الشرفاء من كل ألوان الطيف السياسي لبناء الوطن. ما حدث كان على خلاف ذلك تماماً. لم يكن مرسي من رحابة الأفق الإنسانية والسياسية بحيث يدرك أن مصر أكبر من تيار واحد وجماعة واحدة، مهما تصور أفرادها أنها كبيرة. وبدلاً من أن يبدأ مع الشرفاء من التيارات السياسية المختلفة مسيرة اتفاق وتعاضد ولم للشمل، فإنه أعلن في كل تصرفاته أنه لا يريد شريكاً، وأنه مكتف بذاته التي بدأت تتورم. عين مرسي مستشارين توحي سيرهم الذاتية لأول وهلة بأنهم يمثلون مدارس فكرية شتى، لكنهم كانوا في الواقع بلا صلاحيات، ولم يستشرهم مرسي في شيء كما اتضح في مناسبات عدة، ثم أصبح معلناً بشكل صارخ مع استقالة عدد كبير من المستشارين ذوي التاريخ النضالي المحترم، على أثر هجوم الجماعة على معتصمي "الاتحادية". وشكل مرسي حكومته وأركان حربه من لونين فقط: الإخوان المسلمين، ومديري مكاتب الوزراء في النظام السابق، مبقياً على أساليب العمل الفاسدة ذاتها. واعتبر كل انتقاد مؤامرة عليه، ودلق مدائحه الجزيلة على الرموز التي تنتمي إلى النظام السابق في القضاء والشرطة والقوات المسلحة، ومنح الأوسمة والقلادات لنفسه ولأشخاص كان أداؤهم مزرياً وكارثياً ومعادياً للثورة. هذا في الوقت الذي شن فيه مع تابعيه وعشيرته حملة منظمة تنهش الأشخاص الذين ناضلوا ضد نظام مبارك عقوداً، ودفعوا ثمناً باهظاً من أجل أن تتحرر مصر. اختار الرجل أن يستحوذ ويستأثر، لا أن يعف ويؤثر. اختار التضييق والضيق، لا السعة والرحابة. وسرعان ما ضاقت عليه الدنيا بما رحبت. كان خطابه الأول في ميدان التحرير برمزيته وزخمه وطاقته الوطنية الهائلة، وسط حشود من المصريين من مختلف التوجهات، وانتهي به الحال إلى خطاب وسط أنصاره وحدهم، يصرخ فيه بما لا يليق عن "الحارات المظلمة"، ثم ضاق به المجال أكثر لتضمه سيارة تخرج متخفية من قصر الرئاسة. بدأ الرجل فاتحاً صدره بين جموع المحتفلين بفوزه، يفخر في خطاب متالق بأنه لا يلبس قميصاً واقيا من الرصاص، لينتهي مرتعباً وقد شقَّ الصف الوطني بفعل رغبته ورغبة الجماعة من ورائه، أو من أمامه، في الاستئثار بوطن غير قابل للاستئثار. حاولت الجماعة ابتلاع الوطن، وها هو ينحشر على ما يبدو في زورها.