يجرنا د مرسي و جماعته من مشهدٍ صادمٍ و خلافٍ مفتعل إلى الآخر بسرعةٍ مذهلة لا تتيح للكثيرين وقتاً للتحليل؛ إذ ما بين تعيينات رؤساء تحرير الصحف من قبل مجلس شورى يهيمن عليه الإسلاميون فكأنه اشبه بمجلس شورى الجماعة لا مجلس يعبر عن كافة المصريين الى إلغاء صفحاتٍ بأكملها في الصحف المملوكة للدولة و منع نشر مقالاتٍ كالذي حدث مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد وصولاً إلى الدعاوى المرفوعة على رؤساء تحرير الصحف و خاصةً القضية ضد د عبد الحليم قنديل بكل ما تحتمله من خزيٍ و عارٍ و انحطاط... ما بين كل هذا نحار نحن الذين هاجمنا مباركاً و نظامه و نادينا بضرورة الثورة و لا نكاد نصدق ما آلت إليه الحال، و بالإضافة إلى ما قد يتسرب إلى نفوسنا من الحزن فإن الشعور المسيطر أصبح القلق العميق و الترقب المتشكك من تحركات الجماعة. بيد أن هذا القلق ليس وليد وسواسٍ قهري يلازم نفوساً جبلت على الشك أو توهمات مثقفين و ناشطين أتلف أعصابهم طول الملاحقة الأمنية و الحصار الفكري المفروضين في زمن المخلوع، إذ له أسبابه المنطقية و الموضوعية؛إن أبسط تدقيقٍ في مجريات المواقف الكثيرة المتلاحقة و المتوازية لا يبرر هذه الشكوك فحسب و إنما يشير إلى نمطٍ و أسلوبٍ ممنهج و خطة و هدف يقف وراءها عقلٌ مركزيٌ منظم... يبدأ الهجوم على كاتبٍ بقضيةٍ يرفعها شخصٌ ما مغمور ( و ليس هذا عيباً أو قدحاً في شخصه) أمام إحدى المحاكم مستغلاً تلك المنظومة القانونية المرقعة التي تعبر خير تعبيرٍ عن أهواء النظام السابق و تداخله مع الجماعة عبر علاقاتهما المعقدة و ما يشتركان فيه من مزاجٍ منغلقٍ محافظ، و بينما يهرع الناشطون و الكتاب و المثقفون و كل من يقف وراء حرية التعبير ليستنكروا الهجمة معربين عن خوفهم يخرج متحدثٌ رسمي عن الجماعة لينفي أية علاقة لها بالمدعي...لتثور عدة أسئلة: كيف يتأتى أن كل القضايا ترفع على مناوئي الجماعة و ليس غيرها؟ و أنّى للمدعين، و خاصةً من لا يمتلكون خلفيةً قانونية، بمعرفة ما يصلح لإقامة الدعاوى عليه؟ من الذي يشير عليهم؟ و من الذي يتكلف النفقات؟ و لماذا لا تُرفع قضايا مشابهة ضد الفلول لاسيما في ضوء عودة الكثير من رموزهم المشؤومة إلى تقلد مناصب قيادية في الصحف القومية؟ العلاقة واضحة، و كما نصف بالعمى من لا يرى من الغربال نرى أن من ينفيها مخادعٌ لنفسه...هو أسلوبٌ جديد في العمل خاصٌ بالجماعة، ففي حين اعتمد المخلوع على حملات التشهير من كتبة النظام و على الإعلام الموجه و الضربات الأمنية الإرهابية الغاشمة لنظامه المغرور المعتد بجبروته و سطوته ، لجأت الجماعة و ما تزال إلى استغلال القانون مستفيدةً من قاعدتها الممتدة بحيث يتم توجيه الضربات من الأطراف بتوجيهٍ و تنسيق من القيادة المركزية بما يمكنها من التملص و ادعاء عدم الدراية أو التحريض، خاصةً و أنها لم تتمكن بعد تماماً من آلة عنف النظام ،هذا بالإضافة إلى استغلالها لرصيدٍ شعبي ما تزال تملك منه قدراً ليس بالضئيل ( و إن كان في انحسار)، لذا فليس من قبيل الصدفة أن نجد رموزاً من الجماعة و شيوخاً يستغلون المنابر في صلاة العيد لمهاجمة معارضيهم و تبشير جمهور المصلين و مَن خلفهم عبر مكبرات الصوت بمشروع النهضة المذكور في القرآن (!!) في نفس الوقت الذي تُرفع فيه هذه القضايا على نفس الشخصيات،فما الخُطب إذن سوى تعبئة للجمهور في حملةٍ شعواء لاستكمال هيمنة خطاب الجماعة الفكري عليه. مازلت عند رأيي من أن إزاحة القيادات العسكرية و استبدالها بغيرها تم بسلاسةٍ و إحكامٍ مدهشين، و بعيداً عن هواجس المؤامرة، فإني على يقين من أن ذلك لم يتم دون موافقة ( و ربما تسهيلاتٍ) أمريكية، كما أني أعتقد اعتقاداً راسخاً أن ما نشهده هو زحفٌ إخواني للسيطرة ليس على الدولة وحدها عبر تمكين عناصر الجماعة و المتعاطفين معها من مفاصلها الأهم و الأخطر،أي 'أخونتها‘ و إنما 'أخونة‘ مجتمعٍ أشبعه النظام طيلة ما يزيد على الثلاثة عقود بمعية الإخوان بافكارٍ شديدة الرجعية و شحنه ضد الأراء و الرؤى المغايرة و المعارضة عن طريق شيطنة أصحابها...أما الباقون فتتولى أمرهم قضايا الحسبة... هي حملة إرهابٍ فكري بكل ما تحتمله الكلمة من معان...حرب استنزافٍ جديدة لا تشبه في شيءٍ القديمة، ففي حين أخرجت القديمة أفضل ما في الشعب المصري و جسدت أروع تعبيرٍ عن الوحدة و الإرادة والكرامة و الصمود و التحدي و رفض الهزيمة ضد عدوٍ غاصبٍ تشن الجماعة حربها ضد فئاتٍ من شعبها، ضد بعض المناضلين الذين وقفوا في وجه مبارك و تحملوا قسوته و أذاه، ضد بعض من نادوا بالثورة و كانوا في صفوفها الأولى حين كانت قيادات الجماعة تحسب حسابات الربح و الخسارة المحتملين، ضد أفكارٍ لا تعجبها و تهدد أسسها الفكرية و أشخاصٍ يعارضونها لتستنزف طاقاتهم و تجبرهم على السكوت. فيما مضى، و لأن مباركاً لم يكن يكترث كثيراً، كان النظام يتقبل و يتحمل كثيراً من النقد من باب 'حرية النباح‘ و من منطلق أن الكلام لا قيمة له و لا طائل من ورائه ، و قد عبر المخلوع عن ذلك أبلغ تعبير حين علق على عزم قوى المعارضة إنشاء برلمان بديل عقب الانتخابات المزورة ب'خليهم يتسلوا‘...بيد أن الجماعة لا تنوي أن تسمح برفاهية حرية التعبير، فهم يدركون قيمة 'الكلمة‘ التي زلزلت عرش مبارك، فإذا أضفنا ذلك إلى اتباع نفس النهج الاقتصادي من انحياز للأثرياء و إهمال للفقراء و المهمشين و تسولٍ لقروض البنك الدولي مع الإذعان لكافة شروطه تكون النتيجة كارثية و إحباطاً تاماً لأهداف الثورة.. و كفى بالإخوان بشاعةً في إعادة إنتاج النظام أن يبدأوا من حيث انتهى مبارك! Comment *