شهدت تسعينيات القرن العشرين منحنى هاماً فى مسار القضية العربية / الفلسطينية وخرجت أصوات عدة تنادى بضرورة الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتم تدشين مصطلح " حمائم السلام " - الذى أثبتت الأيام بعد ذلك أنها كانت صقوراً – وبدا التمهيد لعقد اتفاقيات وصفقات تصب جميعها فى مسار التطبيع ، وتسعى لتجميد القضية الفلسطينية وحصارها. وكان الكاتب المصرى لطفى الخولى أول الموقعين على إعلان " كوبنهاجن " فى 30 يناير 1997 - الذى شاركه فيه آخرين من الأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر من أبرزهم عبد المنعم سعيد وحسن الحيوان وغيرهم - وكان من أكثر المتحمسين لأهمية الحوار وتقريب وجهات النظر والرضا بالحل السلمى وبأن الأمر الواقع يفرض أشياءً لابد من التعامل معها والتسليم بها . وتعد كوبنهاجن حلقة من حلقات عدة فى سيناريو التطبيع وتقويض القضية الفلسطينية ، ولقد استفادت دولة الكيان الصهيونى وحدها من كل هذه المحاولات التى قام بها البعض طواعية أو دُفع إليها البعض دفعا، كما قيل عن حالة الأستاذ لطفى الخولى، الذى تم الترويج أيامها بأن نظام مبارك هو من أجبره أو أقنعه للقيام بهذا الدور. ولأن لطفى الخولى مناضل قديم صال وجال فى ساحات النضال الوطنى محارباً الامبريالية الاستعمارية ومعادياً للصهيونية ورافضاً وكارهاً لكافة أشكال التطبيع مع الكيان الصهيونى، كان هذا التغير المفاجئ باعثاً على الدهشة والأسف للجميع حتى أن الأستاذ نجيب محفوظ كتب أيامها يقول " سبحان مغير الأحوال فى كوبنهاجن " مشيرا لهذا التحول الغريب . ولقد تذكرت هذا كله وأنا أتابع لغة الحوار التى ينتهجها الدكتور عصام العريان، القائم بأعمال رئيس حزب الحرية والعدالة – الذراع السياسى لجماعة الإخوان المسلمين – منذ صعود أسهم جماعته فى بورصة الشارع السياسى، خاصة بعد تولى أحد كبار كوادرها حكم مصر وصارت المحظورة محظوظة وأصبح المُبعدون يحكمون، فسبحان من يغير ولا يتغير. لقد عهدنا الدكتور العريان متودداً للجميع متواصلاً مع كافة التيارات السياسية مهما تباينت أو تعارضت أفكارها مع أفكار جماعته، خاصة وأن أبرز الذين كانوا ينادون بحق الإخوان فى التعبير عن أفكارهم وفى إعطائهم الفرصة، وذلك فى ظل نظام مبارك ،هم من تيار اليسار والليبرالية المصرية. ولقد كان الدكتور عصام أحد مصادرى فى تحقيق صحفى نشر على صفحة كاملة بجريدة "القاهرة "عام 2001 تحت عنوان " لماذا نكره أمريكا " (وفيه فندت كافة التيارات السياسية الأسباب التى من أجلها تكره أمريكا كرمز للتسلط والاستبداد والهيمنة ) ويومها كان الرجل ودوداً فى حواره بشوشاً مُرحبا بى، ثم ويا للعجب أجدنى أتطلع إليه الآن وكأنني أنظر إلى رجل آخر! فها هو يهدد النائب العام فى الأزمة الأخيرة ( التى تراجع فيها الرئيس عن قراره بإقالته معللاً ذلك بحدوث لبس و سوء فهم لديه ؟! ) وها هو يصب جام غضبه على اليسار ثم يهاجم هذا ويستعدى عليه ذاك – فى ثقة من يملك صنع القرار – ووجدت الوجه البشوش وقد صار متجهماً وفارقته الابتسامة المرحبة – أتراها كانت مصطنعة ؟ - وأصبح الدكتور العريان ينثر المشكلات أينما حل، فلم يسلم منه قاسٍ فى الحياة السياسية ولا دانٍ . ومن العجب أن تجد هذه الحالة وقد تلبست غيره من قيادات الإخوان، لكن الحق أنها معه قد ازدادت وازداد أوارها، ولهذا أتساءل: هل ما حدث من تحول للدكتور عصام ولرفاقه مبعثه نشوة السلطة والشعور بالمغالبة أم أن هذه حقيقتهم التى لم يكن يراها أحد؟. أعتقد أنهم يفتقدون للناصح الأمين الذى يبصرهم بما يفعلون وباللغة التى يتبنونها فى حواراتهم، وإلا لما تُركوا هكذا يوزعون الاستعداء عليهم هنا وهناك، كما أعتقد أنهم لا ينظرون للصورة الكاملة التى عليها مصر الآن، فمن كان يحلم بأن يقف مبارك وابنيه وأركان حكمه خلف القضبان ؟ ومن كان يتخيل أن تزول دولة العادلى وعز والشريف ؟. إن حالة قيادات الإخوان خير دليل على السكر بخمر السلطة – لكن التاريخ يؤكد أنه لا يدوم – والذى بدا منذ التقت توجهات العسكر فى الالتفاف على الثورة وتقويضها مع طموح الإخوان - وبقية التيارات ذات الخطاب المتأسلم – فى اختطاف الثورة وجنى مكتسباتها، ولقد كُلل ذلك كله بتصعيد الدكتور محمد مرسى وتوليه حكم مصر، فى واحدة من أكثر المراحل عبثية منذ تولى العسكر شئون البلاد . فلم يكن بمقدور أكثر كتاب الدراما امتلاكاً للخيال أن يتوقع وقوف الشعب حائراً بين اختيار مرشح الإخوان – الذى كان احتياطياً – أو اختيار الفريق شفيق، رمز النظام البائد وأحد أذرع العسكر، ثم لم يجد الشعب خياراً وتجرع أقلهما ضرراً وأقربهما لخطاب الثورة، إذ كان من العبثى أن يأتى الشعب بأحد فلول النظام الذى ثار من أجل إسقاطه . وكما كان يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 يوما فارقا فى تاريخ مصر بإشعاله جذوة الثورة العظيمة، سيكون يوم 12 أكتوبر 2012 – جمعة كشف الحساب – يوماً فارقاً فى مسار الحركة السياسية بعد ثورة يناير، وفى موقف جماعة الإخوان المسلمين من هذه الحركة، إذ كشف النقاب عن مدى إدعاءاتهم وأوضح مقدار مراوغتهم، كما أسقط الأقنعة من فوق وجوههم، فلن ينسى أحد ذلك المشهد الهمجى حين هاجمت ميليشيات الإخوان ميدان التحرير وحطمت منصة القوى المدنية واعتدت على المتظاهرين السلميين الذين خرجوا للتعبير عن رأيهم وللتأكيد على أن حيوية مصر باقية ومتجددة، وأن صوت الحرية باقٍ وأن الاختطاف القسرى للثورة لن يطول، فما زال نهر الثورة جارياً ومازالت أرواح الشهداء ترفرف فوق رؤوسنا مطالبة إيانا باسترداد الثورة التى قضوا فى سبيلها كيما يحيا وطننا فى حرية وفى كرامة و بأمل وثقة فى مستقبل نستحق أن نحياه ( ولقد ذكرنا هذا المشهد بآخر أكثر منه همجية وهو يوم موقعة الجمل، فى 2 فبراير 2011 ، و الذى تفنن فيه أذناب مبارك فى التنكيل بالثوار السلميين بعد أن هاجموهم بالخيول والجمال). وإذا كنا قد توانينا عن حماية ثورتنا، وتركنا فصيلاً يزيف وعى الجماهير ويلتف على المسار الثورى، حتى بتنا نشهد بزوغ تيارات غريبة على مجتمعنا تقدم خطاباً أشد غربة ،يسجننا فى غياهب الماضى ويعود بنا لعصور الظلام، فعلينا الآن أن نصطف تحت مظلة ثورية مخلصة تضمن لمصر وجهها المدنى النقى وتدفع بها نحو مستقبل مشرق، دعائمه العلم والعمل وسمته الحرية والكرامة. Comment *