يفضل الدخول فى الموضوع مباشرة، إذا كانت الأمور مستعصية، تجنبا للغرق فى بحور من الكلام الجدلى. الثلاثاء الماضى، عقدت جريدة «الشروق» مائدة مستديرة وكأنها مواجهة محبوبة. أساتذة التاريخ د.لطيفة سالم، د.حمادة إسماعيل، ود. محمد عفيفى مقابل ناشطين سياسيين مثل جورج إسحق والدكتور عصام العريان الإخوانى البارز. ودار النقاش الذى غلب عليه، كالعادة، الوضع الراهن للبلد، وهو ما أكده د.عفيفى أن «سكة» الندوة عرجت عن هدفها الأصلى، وهو إشكالية كتابة تاريخ الثورة، ومناقشة العريان وإسحق فى أمور تخص التاريخ، الذى يتحرك فى حالتنا هذه من المستقبل... الداخلى خط أحمر فضل الكاتب وائل قنديل مدير تحرير «الشروق» الذى أدار الندوة أن يتحدث الحاضرون عن مقدمات ثورة 25 يناير، وأوجه التشابه مع ثورات مصر الأخرى، متسائلا: هل كانت ثورة يناير لحظة حتمية الآن؟ جورج إسحق: أريد أن أبدأ من قبل 25 يناير، لأرد على من يدعى أن الثورة حدثت فجأة، وأنها ثورة شباب. إنها ثورة الشعب المصرى. وكان هناك نضال طويل منذ 1977، من اعتقال وحبس وتعذيب وتلفيق قضايا، حتى وصلنا إلى 2003 الذى بدأ فيه الحديث عن انتخابات 2005 البرلمانية والرئاسية. ولاحظنا وقتها أنه لم يتحدث أحد منذ السبعينيات عن الشأن الداخلى، كان الشأن العراقى والفلسطينى هو المسموح به فى أحاديث الناس. وكانت هناك مظاهرات مليونية لتدعيم الشعب العراقى أو الفلسطينى. وكانت التعليمات واضحة بأن هناك خطا أحمر حول مبارك وأسرته: سوزان وجمال وعلاء. وتشكلت مجموعة من 6 أشخاص تمثل التيارات السياسية المختلفة لتغيير هذا الوضع. السيد عبدالستار «إخوان»، وأمين إسكندر «ناصرى»، وأحمد بهاء الدين شعبان «شيوعى»، وأبوالعلا ماضى «إسلامى»، محمد السعيد إدريس «قومى»، وأنا. ● عفيفى: وأنت ماذا؟ إسحق ضاحكا: أنا ليبرالى ديمقراطى. كنت ماركسيا تحت الأرض، و«بطلت»، والآن أصبحت فوق الأرض. وأصدرنا وثيقة ضد الهيمنة الأمريكية والعربدة الإسرائيلية، وكان منطلقنا أن مصر لابد أن تكون دولة ديمقراطية لمواجهة هذه الهيمنة وتلك العربدة. ولعلم الجميع، مطالب ثورة 25 يناير هى المطالب نفسها التى رفعتها حركة «كفاية». وهناك كتاب مهم «دولة العدل والحرية»، من يقرأه، يكتشف أن هذا الكتاب يتناول جميع ما نتحدث عنه الآن. المهم أننا وجدنا صعوبة فى توافق كل التيارات السياسية فى إصدار وثائق أخرى، لذلك توصلنا إلى تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير كصيغة للخروج من هذه الصعوبة بين القوى السياسية. ولا يجب أن ننسى ما كتبه د.عبدالوهاب المسيرى عن الفساد فى مصر، عبر مجلدين كبيرين. يقال الآن إن الثورة هى التى فضحت الفساد، وهذا غير صحيح، الذى فضح الدنيا وفساد الكبار، هو التراكم الذى قام به النشطاء السياسيون منذ سنوات طويلة. ويكفى ما فعلته «كفاية» التى كسرت خوف المصريين من حالة الطوارئ، وأخذت حق التظاهر السلمى، والحراك السياسى فى محافظات مصر. ● أحمد الزيادى: ومن أطلق اسم «كفاية»؟ جورج: محمد السعيد إدريس الذى قال «كفاية قرف بقى»... قنديل: لاحظت أنك قفزت على ذكر الجمعية الوطنية للتغيير ودور البرادعى. إسحق: لم أقصد. ما أريد قوله أن ما حدث فى الثورة هو تراكم لسنوات النضال، وبعد كوارث ارتكبها النظام من حادثة القطار مرورا بحرق قصر ثقافة بنى سويف وغرق العبارة وتزوير الانتخابات انتهاء بتفجير كنيسة القديسين. العريان: التاريخ بالطبع تراكمى بحكم رؤية إخواننا الماركسيين. وثورة يناير لم تكن فجأة. وفى 1990 أصابتنا حالة من الإحباط أن مبارك ليس جادا فى الإصلاح السياسى، فقررنا مقاطعة الانتخابات إلا حزب التجمع الذى رأى أن مصلحته دخول البرلمان الذى غاب عنه طويلا. والمقاطعة نفسها تكررت فى 2010، وذلك لتعرية النظام المصرى. وقد مر عقد التسعينيات بدون أمل. والبرلمان أقرب إلى التعيين، ولكن بدخول الإخوان أعطوا أملا فى مقارعة النظام. وحدث نقطة تحول كبير، نتيجة أن مبارك أراد أن يورث البلد لابنه، فبدأت فى 2003 شعارات «لا للتمديد.. لا للتوريث». ولكنى أود الإشارة إلى الدعوات التى ظهرت كدعاية للتوريث كمبرر للتخلص من حكم العسكر. وناقشت جماعة الإخوان هذه الدعوة المقترحة. وهناك أشخاص معروفون محسوبون على المعارضة كانوا ضمن آلة التوريث. البيئة المحلية المصرية مستعدة للقيام بالثورة، والبيئة الإقليمية كانت فى طريق مسدود، خاصة فى الملف الفلسطينى، ودخول العرب فى الحظيرة. وأنا أعتقد إذا تمت محاكمة مبارك ستكون محاكمة دولية. جورج: وهل سيحاكم أصلا؟ قنديل: هناك تسريبات تستفسر إذا رحل مبارك هل ستقام له جنازة عسكرية أم لا؟ العريان: هذا صحيح. نعود مرة أخرى، إلى الوضع الدولى الذى شجع على قيام الثورة، هذا الوضع الفاشل، حسب تعبير أوباما الذى أكد أن أمريكا فشلت فى بناء الأمة فى أفغانستان وفى تحقيق الديمقراطية فى العراق. قنديل: يا دكتور قلت إن مقاطعة الانتخابات فى 1990 كانت لتعرية النظام، فلماذا شاركتم فى انتخابات 2010؟ العريان: لقد اختلفنا فى الجمعية حول الموقف من الانتخابات، وجورج إسحق يذكر جيدا ما حدث. الكل قال إن الإخوان شقوا الصف الوطنى. ولكن كان الهدف واحد، وهو تعرية النظام. قنديل: هذا ما قاله السيد البدوى أيضا فى تبريره المشاركة فى الانتخابات. العريان: لا، الوضع مختلف. وذكر الإخوان فى جمعية التغيير أن القرار الذى لم يُجمع عليه غير ملزم، لذلك لم نلتزم كجماعة بالمقاطعة. جورج: يا دكتور، نحن نتحدث عن التوافق لا الإلزام. الإخوان ليست القوى السياسية الوحيدة فى جمعية التغيير، فلماذا لم تخضع لقرار المقاطعة كبقية القوى السياسية الأخرى. العريان: الموضوع ليس بعدد القوى السياسية، وإنما بالأوزان، أى القياس بوزن هذا الفيصل فى الشارع، وفى عدد ما مثله فى مجلس الشعب من قبل. وكيف نطلب لقوى سياسية لها «وزن» فى مواجهة النظام مقاطعة الانتخابات التى كان من المتوقع لها أمران: فضح النظام بأنه يزور الانتخابات، أو كسر إرادته أمام الناس. وكان هدفنا كسر شرعية النظام، ولعل نتيجة انتخابات 2010 كانت القشة التى قصمت ظهر البعير، ولولا مشاركة الإخوان لما ظهر غباء النظام فى تزويره. جورج: أنت تعلم أنها مزورة، ودخلت الانتخابات. وبعيدا عن مسألة الأوزان، أنتم تخليتم عن التوافق مع القوى السياسية، وهذه مسألة مهمة أكثر من خوض الانتخابات. العريان: هدفنا واحد، ولكن التكتيك مختلف. التكنولوجيا الحديثة والنديم قنديل: دكتورة لطيفة أى من الثورات المصرية خلال القرنين الماضيين أقرب لثورة 25 يناير؟ لطيفة: أستطيع القول إن أول ثورة حقيقية قامت فى القرن التاسع عشر، كانت الثورة الوطنية «العرابية» التى طالبت بالتغيير الشامل، وكانت أول ثورة دستورية فى الشرق الأوسط. والثورة الثانية، هى ثورة 1919 والفرق بينهما 28 سنة. وكان المثقفون هم المحركون للثورات، حتى فى ثورة يناير. الاختلاف جاء هذه المرة فى أدوات الثورة. التكنولوجيا هى الفاعلة فى هذه الثورة. ولنا أن نتصور ما الوضع إذا كانت تكنولوجيا هذا القرن موجودة أيام عبدالله النديم الذى كان يطرق كل أبواب العمد فى القرى للتبشير بالثورة العرابية. وبمسح شامل للصحف المصرية خلال العشر سنوات الماضية، سنجد أن الصحافة لعبت دورا فى التمهيد للثورة، وفى حركة الضباط الأحرار نجد أنهم، عبر مذكراتهم، وعى ثقافى لديهم، وبالمناسبة أول من أطلق «لفظ» ثورة على حركة الضباط التى كانت توصف بأنها «المباركة»، هو سيد قطب وليس طه حسين. أخيرا، هناك سمات تجمع الثورات كلها، مثل دور المثقفين فيها. بعد انتهاء حديث د.لطيفة سالم، طرح سؤال: لماذا تتعدد وتتكرر الثورات فى مصر، هناك الثورة العرابية وثورة 1919، ثم حركة الجيش أو ثورة يوليو وثورة يناير؟ حمادة إسماعيل: كل الثورات فى العالم تفرز نظاما سياسيا مستقرا، ولكن الثورات فى مصر لم تؤسس لهذا النظام المستقر فى شكل دستور ثابت. قنديل: كل الثورات المصرية كانت ضد الاحتلال الأجنبى، إلا ثورة يناير فكانت ضد الاحتلال الوطنى. عفيفى: أشيد برؤية د. عصام العريان للبيئة المحلية والإقليمية والدولية التى ساعدت فى قيام الثورة التى كانت لابد أن تقوم بعد سقوط حائط برلين. الثورات العربية مؤجلة من التسعينيات. والتاريخ يحمل الاستمرارية، فثورة 25 يناير استمرار للثورة العرابية وكذلك ل 1919، وبقية الثورات. وفى الحقيقة كان كل شىء حولنا يبشر بالثورة: الأدب والسينما والأغانى. والعالم التونسى الطاهر لبيب قال إننا حاربنا الاحتلال الأجنبى، وعلينا الآن أن نحارب الاحتلال المحلى. وتكفى الفجوة المعرفية والتكنولوجية بين المعارضة والحكام العرب الذى يتحدثون عن التوريث «وهو من مخلفات القرون الوسطى». الجيش والثورة ثم دار نقاش سريع حول دور الجيش فى حماية الثورة والمشاركة فيها، والتشابه الكبير بين ثورتى يوليو ويناير، وهو مساندة الجيش لثورة الشعب، ومساندة الشعب لثورة الجيش. واتفقوا أن الوثائق ستكشف بعد ذلك حقيقة موقف الجيش من ثورة يناير 2011. العريان: الفجوة المعرفية والتكنولوجية بدأت منذ انتخابات 2005، وقد كتبت جريدة الحياة أن الإخوان أجادوا توظيف التكنولوجيا الحديثة بطرق غير مسبوقة. قنديل: الآن يعترف العريان باللجان الالكترونية للإخوان! حمادة إسماعيل: من راقب المجتمع المصرى، يعرف أنه كان على وشك الثورة لفساد التعليم والشرطة وإرادة الإفساد التى تتحكم فى أمورنا. العريان: حلمنا ليس إزاحة مبارك، بل إقامة نظام ديمقراطى. وكتبت من قبل أننا حاولنا إقامة هذا النظام من أيام محمد على وفى الثورة العرابية وفى ثورة 1919، ولكننا فشلنا. نحن أمام حلم ثابت، وهو إقامة الديمقراطية. عفيفى: سؤال للدكتور عصام العريان: حدث تغير وتطور فى جماعة الإخوان بعد 23 يوليو، فهل بعد ثورة يناير ستتغير الجماعة أيضا؟ العريان: هذا حدث بالفعل، والتغيير حدث قبل الثورة. وسيفرج عن وثائق الإخوان «إن شاء الله» لبيان ذلك. كان لدينا جدل يدور فى مكتب الإرشاد، حول مشروع الإخوان، فنحن نمتلك مشروعا لإحياء إسلامى، والذى لم يفلح هذا إلا فى نظام ديمقراطى حقيقى. ومن الناحية العملية، طبق الإخوان التجربة على التحول الديمقراطى، منذ تعاون المرشد عمر التلمسانى مع زعيم الوفد فؤاد سراج الدين لخوض الانتخابات معا. وزاد التحول بعد ذلك بعد إصرارنا ألا نكون أسرى الوفد. وخوض الانتخابات وتكوين كتلة برلمانية كبرى وضع الإخوان على المحك، وأصبحنا فى تحول حقيقى، وذلك بسبب حزب الإخوان. الحزب فى الأدبيات السياسية هو أداة للوصول إلى الحكم. وقد قلت من قبل لأبوالعلا ماضى: إذا كان الحزب لم يكن قادرا على الوصول إلى الحكم، فهو مجرد ديكور. عفيفى: هل يستطيع الحزب أن يقدم النموذج التركى؟ العريان: ظروف تركيا مختلفة، فالحزب لا يستطيع أن يرشح محجبات. وأنا أعتقد أن محمد على حينما أراد أن ينهض بمصر حوصر من الإمبراطورية العثمانية. وهذا ما يحدث الآن. مصر أهم من تركيا عفيفى: وهل تستطيعون تقديم إسلام حديث مثل تركيا التى تروج أن إسلامهم عصرى؟ العريان: الإخوان قادرون على تقديم إسلام أكثر حداثة. تركيا الحديثة نشأت فى إطار دولى كحائط صد أمام الاتحاد السوفييتى. والإسلام فى مصر ليس يخص الإخوان وحدهم، ولا ننسى دعم المسيحيين للمسلمين، خاصة أيام الفتح العربى لمصر، والذى ساعد على تقوية الدولة الإسلامية من خلال الجهاز الإدارى. وأقصد بذلك الحضارة الإسلامية.