كنت أظن أن نهر النيل الذي هو بمثابة شريان الحياة في مصر وغيرها من البلاد الإفريقية تتمثل مشكلته الراهنة فقط في محاولات الكيان الصهيوني في إقناع بعض هذه البلاد في إقامة سدود وموانع خرسانية على امتداده العرضي والطولي لحجب مياهه عن مصر التي تمثل الرادع البشري والعسكري والطبيعي أيضاً لإسرائيل ، وكنت أتابع بجدية ما يحدث من مشاورات واجتماعات خاصة بهذا الموضوع وتحديد نسبة مصر من مياه النيل ، ولكن يبدو أن أزمة النيل لم تقف عند حد المياه وحصة مصر منه فقط ، بل تجاوزت هذه الأزمة لتشمل جوانب إنسانية أكثر تعقيداً لتضمنها الجوانب والمناحي الأخلاقية ومنظومة القيم . فمنذ عامين تحديداً قرر الدكتور أحمد نظيف رئيس وزراء مصر السابق إنشاء مدارس وجامعة تحمل اسم النيل تقوم بتدريس مقررات أجنبية الصنع والإعداد ؛ بريطانية وأمريكية ، وكلا المنهجين ينفذان أجندة صهيونية يقوم الكيان الصهيوني بتمويل تلك المدارس بصورة خفية عن طريق تقديم بعض الجامعات والمعاهد والمراكز التعليمية البريطانية والأمريكية التابعة للكيان الصهيوني .وكان الغرض المعلن عن هذه المدارس هو الارتقاء بالمنظومة التعليمية على حد قول العاملين بصندوق تطوير التعليم التابعة له هذه المدارس ، لكن تقبع أغراض أخرى من أبرزها التربح وإهدار المال العام وهو ما أشارت إليه عشرات التحقيقات الصحفية والقانونية حول هذا المشروع المزعوم. ولك أن تطالع الأهداف الموضوعة لتلك المناهج لتكتشف بنفسك السياسات التعليمية المنفذة بهذه الأنظمة التعليمية الموجودة على أرض مصر والموازية دونما استحياء لمناهج الوزارة الوطنية وإن كانت الأخيرة تعاني أيضاً خللاً تعليمياً واضحاً . فمناهج هذه المدارس الدولية تستهدف تخريج متعلم مشوه الملامح ، لا هوية وطنية له ، والكارثة أن الدولة لا تأخذ هذا الأمر بقدر من الاهتمام ، وهذا الشئ هو الذي سيضعها في مأزق واضح عندما نجد هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم من هذه المدارس المشوهة تعليمياً والمخالفة لتقاليدنا الاجتماعية يحاولون الولوج في النسق المجتمعي وهم يحملون فكراً مغايراً وهوية مختلفة وطريقة حياة لا ولن تتفق مع وطن بدا يستفيق عن ديموقراطية وحرية وعدالة اجتماعية. وما ينبغي وضعه في الاعتبار قبيل استجوابات مجلس الوطن بشأن طبيعة هذه المدارس التي لا تربطها صلة بالوطن ذاته ، أن تقوم وزارة التربية والتعليم بمراقبة تلك المدارس التي تعبث بفكر أبنائنا دون رقيب ، بل إن نظم التعليم ذاتها بهذه المدارس تبدو غامضة ، والغموض ليس في المواد التي يتعلمها الطلاب بها بل في السياسات التعليمية لهذه المدارس والتي لا يعرفها الطلاب ولا أولياء أمورهم أيضاً . والغريب أن المدارس الدولية ذات الطبيعة المزدوجة والقابعة في الخفاء على أرض المحروسة بدلاً من أن تتحول إلى مؤسسات تعليمية ناهضة تنهض بأبنائنا ، سرعان ما تخلت عن هذه المهمة القومية لتتحول إلى مؤسسات ربحية ذات طبيعة اقتصادية للقائمين عليها ، فبات من هم أصحابها وروادها كيفية استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب لحصد أموال هائلة مستغلين في ذلك عقد النقص المتغلغلة في العقلية المصرية كالتعليم الأجنبي والهوية العالمية ومواكبة التغيرات العالمية وغير ذلك من مؤشرات دغدغة العقول والقلوب.وهذا ما دفعهم إلى اتسقطاب معلمين ومعلمات لا يتمتعون بكفاءة تعليمية نوعية ، بل إن أغلبهم غير متخصص في مادته وولي الأمر في غفلة عن هذا الأمر. ولا أعرف سبباً واحداً يجعل نواب مجلس الشعب حتى الآن يغفلون عن حقيقة هذه المؤسسات التي تمثل تحدياً صارخاً للثورة المصرية باحتفاظها بكافة ثيادات الحزب الوطني المنحل بداخلها وكذلك بعض رموز النظام السابق وأقاربهم والدليل على هذا أن مديرة هذه المدارس هي إحدى أقراب أحمد نظيف نفسه ، والتي من شأنها قامت باستقدام كل من له ولاء وانتماء لهذا النظام البائد لإدارة هذا المشروع . وكم هو غريب حقا أن نجد بعض مديري هذه المدارس من مناطق مختلفة يديرون هذه المدارس في غير محافظاتهم ، فمثلاً مديرة المنيا من الإسكندرية وهي لم تتجاوز شهادة الليسانس في إعدادها العلمي ، ومدير السادس من أكتوبر وقف أيضاً على حد هذه الدرجة العلمية وهكذا في بقية المدارس . وليس الأمر هنا يتوقف على تحديد المستوى العلمي والأكاديمي لمديري هذه المدارس الذين يواجهون قضايا متعددة بساحات المحاكم المصرية في تهم تتعلق باحتجاز العاملين وطردهم وفصلهم فصلاً تعسفياً واللغط حول دفع التأمينات والضرائب المستحقة للمعلمين بها، بل الأمر يتجاوز ذلك كله إلى سؤال مفاده : ماذا قدمت هذه المدارس الربحية لمصر ؟ والإجابة باختصار شديد قدمت له مناهج مشوهة لا تتصل بالبيئة المصرية الثورية ، ولا تتوافق مع قيمنا العتيدة ، بل أن هذه المناهج نفسها غير مضبوطة علمياً بالإضافة إلى هذا الإهدار الفج للمال الوطني من خلال جيوب وهمية تسمى التدريبات وورش العمل وإعداد المعلمين الذين هم من الأساس يحتاجون إلى إعادة نظر في تأهيلهم الجامعي الأول . وعودة إلى نواب الشعب الذين اكتفوا بممارسة أدوار هزلية لا تليق بقيمة وتاريخ البرلمان الوطني العريق ، فعليهم أن يسترعوا كنه هذه الحقيقة التي تحدث بأرض مصر ، والتي كنا نظن أن مظاهر الفساد التعليمي قد ذهبت نهائياً مع أصحابها بمحابسهم ، لكن في ظل غفلتنا عن شئوننا الإنسانية وانشغالنا المحموم بالسياسة لم نلتفت إلى مؤسسات قد تعيث في الأرض فساداً بتدمير عقول الناشئة والصغار. الكارثة في هذه المدارس ليست فقط في تدمير هوية التلميذ المصري فحسب ولا في طبيعة الإدارة التي تحكم هذه المدارس ومدى كفاءة المعلمين والمعلمات بها ، بل تتمثل الكارثة في أن هذه المدارس تتبع الصناديق الخاصة التي كثر حولها الجدال البرلماني والقضائي والإعلامي والنتيجة صفر . فهذه المدارس تتبع صندوق تطوير التعليم التابع لرئاسة مجلس الوزراء المشغول حالياً ومنذ فترة بمساجلات نواب التيار الديني وصراعه الخفي مع المجلس لسحب الثقة فغفل عن أمر هذا الصندوق الذي لا يخضع رقابياً لوزارة المالية ولا لوزارة التربية والتعليم ، وهو أمر جد خطير . إلى متى سنظل مؤمنين بأن الإصلاح يأتي من الخارج وإلى متى ستظل العقدة التي كرسها محمد علي باشا في التعليم المصري بأن التطوير يأتي من القمة قائمة في نظمنا التعليمية ؟ وحينما نحاول جاهدين أن نغير هذه النظرة نلجأ إلى استيراد نماذج تعليمية مشوهة المعالم وغير صالحة لبيئاتنا العربية والإسلامية والنتيجة بالقطع معلومة ومعروفة مسبقاً هو متعلم غير متوافق مع المعطيات الاجتماعية المصرية لأنه بالفعل مشدود لثقافة مغايرة لا تعبر عن واقع يعاني . لقد أخذتنا حمى الاهتمام بالانتخابات الرئاسية بعيداً عن قضية أخطر ألا وهي التعليم ، وأصبحنا في هوس محموم ومتسارع نحو حملات المرشحين للرئاسة ولم نعي لواقعنا التعليمي الأجنبي الفاشل في تحقيق أية أهداف تخدم المنزل والشارع والعمل والوطن بأكمله ، بل طفقنا ننشئ مؤسسات ربحية غير معلومة التمويل تحت شعارات وهمية مثل تعليم أفضل ومدارس عالمية وهي ليست كذلك . وكلامي هذا ليس من باب الادعاء المطلق بل إنني كنت من المشاركين لفترة وجيزة من الزمن لا تتجاوز العام في هذه المؤسسات أعني النيل المصرية وكنت شاهد عيان على سلبيات الإدارة والتعليم والمتعلم والمنظومة التعليمية برمتها ، وكم من مرة شددت على أن النيل الذي نهدر مياهه تحت مرأى ومسمع المصريين أصبحنا نستخدم اسمه مرة ثانية في إهداره عن طريق تدمير هوية أبنائنا وبناتنا الذين لا يفطنون شيئاً عن مستقبلهم أو حتى عن حاضرهم . وكم مرة أشرت في مقالات لي بصحف متنوعة أن صندوق تطوير التعليم نجح في اختيار مديري مدارس تابعة له لا يتمتعون بأية كفاءات تعليمية أو خبرات إدارية اللهم سوى خبرات اللهث وراء المال والصمت المطبق عن جريمة أخلاقية وعقلية ترتكب بحق هذا الوطن الجميل. وإذا كان مجلس الشعب وأجهزة الدولة بدأت تستفيق تدريجياً من غفلتها المستدامة عن هذه المؤسسات الربحية غير الخاضعة مطلقاً للرقابة الحكومية فهذا جيد في حد ذاته ، لكن ماذا عن ما مضى من سلبيات وقصور أصبح كالعاهة المستدامة بجسد وعقل الطالب المصري مشوه التكوين الذهني والوطني والقومي ، ولا شك أن صندوق تطوير التعليم وما تتبعه من مدارس النيل وجامعته متمثلة في السياسات والنظم التعليمية المستخدمة تحتاج إلى جراحة عاجلة، وقبل إجراء هذه الجراحة يحتاج الطلاب وهم الفئة المستهدفة من التعليم ، وكذلك آباؤهم وأولياء أمورهم إلى علاج نفسي طويل الأجل لما سببته تلك السياسات من متاعب وأعباء وإحباطات وأوجاع مزمنة. ولا أظن أن ما يكتسبه الطالب ضمن المناهج الحالية بمدارس النيل المصرية يؤهله إلى امتلاك مهارات الدراسة ، وآليات التفسير والعرض والتأويل، والقائمون على هذه المدارس بضعف كفاءاتهم الإدارية والعلمية والحمد لله كفيلة بتكريس ثقافة اللاعلمية لديه. بالإضافة إلى ما ابتليت به مصر في السنوات الخمس الأخيرة من هوس الفتنة الطائفية ، وانقسام المجتمع إلى طوائف منعزلة عن واقعا المعاش، والمواد والعلوم والمعارف التي يدرسها الطلاب لا تتناول قضايا في غاية من الخطورة، كالتسامح الديني، والتمييز والاستبعاد المجتمعي. وإذا كان هذا هو حال مدارس النيل ، فإن حال جامعته تسير من سوء إلى سوء ، ومحاولات الدكتور العالم أحمد زويل في إحياء النهضة العلمية بها تبوء بالفشل وسط استهزاء أصحاب القرار ، إن حال جامعة النيل كحال الوطن ، ولو أن الوطن استطاع أن يتحرر من سطوة القمع السلطوي على يد نظام مبارك ورجال أمنه البائد ، فإن الجامعة النيلية ومدارسها لم يصلها قطار الثورة والتصحيح بعد ، فعملية التعلم بها لا تزال تواصل مسلسل السقوط المعرفي والعلمي وأصبحت الجامعة والمدرسة مؤسسة لا تسعى إلى تخريج نخبة تقود البلاد نحو الازدهار، لذا فقد قرر مستخدمي الجامعة بتعبير شبكات التواصل الاجتماعي النزوع عنها ، والالتجاء إلى مصادر تثقيفية ذاتية أخرى تحقق تقدماً ملموساً دون قيود المعرفة التي تفرضها عليهم الثقافة التعليمية الرسمية.