ما يحدث فى مصر هذه الأيام جعلنى أتذكر تلك الحكاية الشهيرة التى تختصم فيها سيدتان بعضهما.. وتتنازعان على أمومة طفل.. كل واحدة منهما تؤكد أنها هى أمه الحقيقية.. ولأن اختبار ال«DNA» لم يكن قد ظهر بعد فى تلك الأيام القديمة.. لذلك ذهبتا إلى حكيم الزمان سيدنا سليمان، ليحكم بينهما فى ذلك النزاع.. اعتمد الحكيم سليمان على تلك الحقيقة النفسية الغريزية التى تنص على أن الأم الحقيقية لن ترغب فى إثبات أمومتها، بقدر رغبتها فى عدم تعرض طفلها للأذى أو للألم.. وبناء عليه طلب سيدنا سليمان من السيدتين أن تقوم كلتاهما بشد الطفل من إحدى يديه، ومن تنجح فى شده إليها تكون هى أم الطفل الحقيقية.. أشفقت الأم الحقيقية على طفلها من تلك الفرهدة والبهدلة والشد والجذب.. فرفضت وتنازلت عنه للسيدة الأخرى.. فعرف سيدنا سليمان أنها هى الأم الحقيقية.. وأمر بإعطائها الطفل وسجن السيدة الأخرى.. إنه حكم الحكمة.. والكلمات التى يفترض فيها أن تشير إلى العدالة مثل «الحكم» و«المحكمة» ليست سوى مشتقات لغوية من الكلمة الأم.. «الحكمة»! أسرح فى مدى حكمة التصرف الذى تصرفته الأم الحقيقية.. هل كان ينبغى عليها أن تتنازل عن طفلها بتلك السهولة، خوفا عليه من الشعور بالألم فى أثناء عملية الشد التى قد لا يتحملها جسده الرقيق؟!.. طب ماذا لو لم يستخدم سيدنا سليمان حكمته للفصل فى النزاع، واكتفى بالاعتماد على تنازل الأم الحقيقية عن طفلها للسيدة الأخرى؟.. ما الذى كان يمكن وقتها للأم الحقيقية أن تكسبه من تصرفها ذلك سوى فقدان طفلها للأبد؟!.. تستفيقنى من خيالاتى تلك الحقيقة المهمة التى تنص على أنها حكاية.. مجرد حكاية قديمة لتعليمنا الحكمة.. حكاية تأتى العبرة فيها من خلال تصرف سيدنا سليمان وليس من خلال تصرف الأم الحقيقية.. بمعنى أصح المطلوب منا فى تلك الحكاية هو تعلم الحكمة من سليمان.. وليس من الأم.. من منطلق أن تنازل الأم عن طفلها بتلك السهولة، إشفاقا منها عليه ليس من الحكمة فى شىء.. ولو لم يكن سيدنا سليمان موجودا فى تلك الحكاية، لكنتم ستجدون أنفسكم أمام حكاية أخرى تماما.. لهذا تصرف تلك السيدة بهذه الطريقة كان رهنا بوجود سيدنا سليمان فى الحكاية! الآن.. وبينما بعض فئات الشعب البسيطة والمهمومة بلقمة عيشها فقط، قد بدأت فى الانقلاب على معتصمى الميدان، متهمة إياهم بالعمالة والانقلاب على الثورة العظيمة، متهمة إياهم بتضييع البلد.. الآن وبينما الفتنة التى أشعلها فلول النظام السابق قد بدأت تؤتى أكلها.. الآن وبينما تتسع رقعة الاختلاف القائم على سوء تفاهم كبير بين فئات الشعب المختلفة.. الآن نحن أحوج ما نكون إلى حكمة سيدنا سليمان ورجاحة عقله.. لهذا.. اتفقوا أو اختلفوا مع معتصمى ميدان التحرير من بنى آدمين قد تستطيعون التشكيك فى مدى حكمتهم ورجاحة تصرفاتهم براحتكو.. ولكن ما لا ينبغى أن يشكك فيه أحد هو مدى نبلهم وطهارتهم وحبهم للوطن وتصديقهم لما يعتنقونه من أفكار.. اتفقوا أو اختلفوا معهم براحتكو.. فهذا حقكم.. ولكن.. عندما تجىء سيرتهم فى الكلام على شاكلة.. «وبعدين بقى فى العيال بتوع التحرير دول».. ادعوا لهم فى سركم.. «ربنا يوفقهم».. اتفقوا أو اختلفوا معهم براحتكو.. ولكن فقط.. امنحوهم محبتكم ودعواتكم.. وذلك أضعف الإيمان! الآن.. وبينما مصر الجميلة والعظيمة قد باتت أشبه بذلك الطفل الذى يتجاذبه الجميع.. هل يجدر بالشعب المصرى البطل أن يتنازل عن ثورته وعن أهدافها النبيلة، رغبة منه فى الحفاظ على استقرار البلد؟! هل ينبغى على المواطن المصرى أن يستمر فى أدائه لدور فأر التجارب دوما، وفى تعريضه بشكل مستمر لبالونات الاختبار كتلك البالونة الأخيرة الخاصة بعمالة شباب حركة «6 أبريل» وتنفيذهم لأجندات خارجية.. بالونة يراد بها معرفة مدى قابلية الشعب، لاستيعاب فكرة قد يتم تسويقها فى ما بعد تنص على أنه.. «آدى الثوار يا معلم.. آدى اللى عملوا الثورة».. إذا أضفنا لتلك البالونة البالونة الأخرى الخاصة بأحداث العباسية لقياس مدى قابلية الناس، لأننا نوقعهم فى بعض من عدمه.. عندها يصبح لزاما على الشعب التمسك بثورته.. وعدم تقليد الأم الحقيقية فى حكاية سيدنا سليمان.. لسبب بسيط ومهم ورئيسى وحيوى.. إنه مافيش حاليا سيدنا سليمان ليحكم بيننا بالحكمة.. لهذا.. واصلوا الشد.. ولا تتنازلوا عن طفلكم أبدا.