في ظلّ ما يسمّى ب"الربيع العربي" يشهد العالم العربي أشدّ الصراعات وأعتى النزاعات، إن داخليةً في دول الاحتجاجات العربية وإن في كامل المحيط العربي والإقليمي والدولي، ففي داخل كل بلدٍ عربيٍ محتجٍ صراعاتٌ ضخمةٌ وتداخلاتٌ بين مراكز القوى وبين التوجهات السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة، وفي الإقليم والعالم رصد وترقّب لما يجري ومحاولات لفهمه وتفسيره لاتخاذ موقفٍ محدّدٍ منه، في ظلّ هذا كلّه ينبغي رصد ما يمكن تسميته بالتمدد الأصولي والأولويات الإخوانية. التمدّد الأصولي هو انتشار نفوذ الجماعات الإسلاموية بشتى توجهاتها واختلافاتها إن سياسياً عبر صناديق الاقتراع وإنْ فكرياً عبر صناديق الرؤوس، وإن اجتماعياً عبر صناديق القلوب، فالمشهد العربي اليوم خلافاً لأحلام بعض المثقفين من شتى التيارات غير الإسلاموية في بداية 2011 هو مشهد أصولي بامتيازٍ، ما دعى كثيراً منهم إلى إعادة التفكير في رؤيته وأدّى ببعضهم لتغيير طروحاته وخطابه.
سياسياً وعبر صناديق الاقتراع -مع اختلافات جديرة بالاهتمام- وصل حزب "النهضة" للسلطة في تونس، ووصل عبدالإله بن كيران إلى سدة الحكومة في المغرب، ووصل "إخوان مصر" وسلفيّوها وجماعتها الإسلامية إلى الأغلبية في البرلمان القادم، والوضع في اليمن لن يكون مختلفاً كثيراً في قادم الأيام. أمّا فكرياً وعبر صناديق الرؤوس فإنّ غالب الرؤوس عربياً معتقلة لفكرٍ دينيٍ مسيّسٍ تمّ ضخّه عبر ثمانين عاماً للسيطرة عليها وتوجيهها، فهي خاضعة ومطيعة له، فاقدة للإرادة والفردانية كما أثبت الناخبون الذين منحوا أصواتهم للأحزاب الإخوانية والأصولية بكشلٍ عامٍ. يقول "جوردن س وود" في كتابه "الثورة الأميركية": "الرجال والنساء صغيرو السنّ يمكن أن يمنعوا –بشكلٍ مبررٍ- من التصويت، لأنّه كما أعلن مؤتمر إقليم إيسكس في ماساتشوستس في عام 1778 "بأنّهم وجدوا دون أن يملكوا إرادةً مستقلةً بذواتهم" ص 121. إنّ الإرادة الذاتية والمستقلة محور مهم، فهل لدى الجماهير العربية مثل هذه الإرادة، أم أنّ كثيراً منها لم تزل معتقلة لآيديولوجيات متخلفة؟ وهم لم يعو بعد فردانيتهم واستقلالهم، وعيهم مختطف وطموحهم كذلك، ويمكن أن نستشهد هنا بما قاله جورج طرابيشي في كتابه "في ثقافة الديمقراطية": "ولئن تكن الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه هو جمجمة الرأس. وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع، فإنّ هذا الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد" ص17. أمّا اجتماعياً وعبر صناديق القلوب، فقد كان ضخّ الخطاب الإخواني عبر سنواتٍ طويلةٍ مع اعتماده على الخطاب الديني المسيّس يستعمل العاطفة كثيراً إن من خلال التهييج حيث الخطب الدرامية والمماهة بين الجماعة والدين أو التجريم الذي يعني السعي لزرع الإحساس لدى المجتمعات والأفراد بأنّهم مذنبون مقصرون، وإن من خلال استدرار العواطف لما جرى لهم من تعذيبٍ وحرمانٍ وقسوةٍ. أمّا ما أعنيه بالأولويات الإخوانية والأصولية فهو احتلال الخطاب الأصولي بشتى تفرعاته للمشهد العام وللجدال الثقافي والحراك السياسي والنشاط الاجتماعي والاختلافات الاقتصادية والحضور الإعلامي، بمعنى الحضور الطاغي لأطروحات الأصوليين وتوجهاتهم وأفكارهم إن من خلال أطروحاتهم ومواقفهم هم ومؤيدوهم، أو من خلال أطروحات ومواقف خصومهم، أو من خلال من يحاولون قراءة المشهد العام أو بعض تفاصيله. لقد أصبحوا حاضرين أكثر مما سبق، بل أكثر مما ينبغي. لقد أصبحت فتاوى القرضاوي وضبابية الغنوشي وتصريحات "الإخوان المسلمين"، ومواقف السلفيين، أولويات دخلت عالم السياسية والثقافة والاقتصاد والإعلام، في السياسة هم محل جدلٍ في "تونس الغنوشي" و"مصر الإخوان المسلمين و"ليبيا الإمارات الإسلامية" المسلحة، وفي سوريا واليمن لم يزل الجدل يتوالى هل سيكون خيار الإخوان المسلمين القادم أسوأ من النظام القائم أم أحسن؟ في الثقافة بدأ الاهتمام الثقافي يتجه نحو محاولة فهمٍ أعمق لخطاب وطروحات رموز وحركات وجماعات الإسلام السياسي، إن بهدف فهمها لمن لم يكن له سابق تجربةٍ في الاهتمام بها، وإن بغاية النظر في تأثيرها وقدراتها في التأثير على التغيرات الكبرى الحاصلة في العالم العربي، وإن بهدف إضعافها وإبراز خلطها من قبل الفرقاء السياسيين، مع ظاهرةٍ موازيةٍ يمكن ملاحظتها بسهولةٍ حيث أصبح بعض من المثقفين يتركون مواقعهم السابقة وينتقلون لمواقع إما إسلاموية وإما محاذيةٍ وإما متملقةٍ لما يعتقدونه المدّ الإسلاموي القادم في المنطقة. لئن كان جدل الدستور مهماً داخل البلدان العربية المحتجة، وطبيعة الدولة مدنية أم دينيةً كذلك، فإنّ التحدّي الأهمّ سيكون محوره التنمية والاقتصاد، كيف ستستطيع هذه الجماعات الأصولية، وهي بلا خبرةٍ في إدارة الدول خاصةً في لحظاتٍ شديدة الاضطراب، وفي ظل موارد قليلةٍ أن تصنع نجاحاً تنموياً يلبّي رغبة رجل الشارع العادي، وأن تبني اقتصاداً يحمي كيان الدولة ويوصل للرفاه الاجتماعي؟ كما أنّ أسئلةً أخرى سيكون من الواجب عليهم مواجهتها، كيف سيتعاملون مع إسرائيل والاتفاقيات الدولية التي وقّعتها مصر مثلاً؟ وهل سيجرّون البلاد والمنطقة لحربٍ ضروسٍ مع إسرائيل سيدفع ثمنها غالياً شعب مصر والشعوب والبلدان العربية؟ أمّ سيلقون في القمامة خطاباتٍ وشعاراتٍ ومفاهيم -كانوا يقولون لنا إنّها هي الدين نفسه- واصلوا ضخّها خلال ثلاثين عاماً ضد عملية السلام واتفاقياته؟ الأكيد هو أنّ تغيراتٍ ضخمةٍ ستطرأ على خطابهم وستنطلق مكنة تبريرٍ ديني وأخلاقي لكل قرارٍ يتخذونه وكل موقفٍ يتبنّونه. ليس الموقف من إسرائيل هو ما سيواجهونه ولكن كذلك الموقف من القوى الإقليمية في المنطقة، وتحديداً إيران ذلك الحليف حتى الماضي القريب؟ هل سيقفون معها ضدّ دول الخليج العربي؟ أم سيعيدون موقفهم ليعادوا الاثنين معاً؟ بل ماذا سيكون موقفهم من قطر راعية الإسلام السياسي في العالم لأكثر من عقدٍ من الزمن؟ إنّ الغائب الأكبر عن المشهد في العالم العربي هو الوعي الحضاري، وعي الفرد بذاته، ووعي المجتمع بغايته، ووعي الدولة بأهدافها. من يظنّ أن وعي العالم العربي في هذه اللحظة التاريخية هو ذات وعي الغرب حين قام بثوراته إنّما يتبع سراباً. والناس تجاه قراءة مستوى هذا الوعي فريقان: فريق متفائل يدفعه طموح جامح وآمال عراض يكذّبها الواقع، وفريق متشائم تدفعه واقعية مجروحة يؤذيها صدق توقّعاتها على الأرض بقدر ما يزكّيها صدق قراءتها للمشهد وصدق تنبؤاتها منذ بداية العام. كان البعض مطلع العام يراهن على شباب "فيسبوك" و"تويتر" و"التحرير"، ويرفض أي إشارةٍ للخطر "الإخواني" أو الأصولي ويدين أخلاقياً كل من كان يطرح حديثاً كهذا، وحين أفرزت صناديق الاقتراع الإخوان والأصوليين بشتى النكهات عاد بعضهم ليتحدث عن اختطاف ثورات الشباب من قبل الأصوليين، وتساءل البعض الآخر أين اختفى ذلك الشباب؟ أما البعض الآخر فقد انتقل للحديث عن المستقبل وأن الأصوليين لابدّ أن يلتزموا بشروط الديمقراطية وأن لا يعيدوا البلد للوراء في عملية اشتراطٍ على الأصوليين ليس على الأرض ما يجبر الأصوليين على الالتزام بها