حكايات المصريين لا مكان لها أو زمان،فهي خصبة تبعث الحياة في التواريخ،وبعيدا في الجنوب حيث منابع النيل تتواصل حكاياتهم التي بدأت منذ فجر تاريخ صاحبة "الأرض السوداء "،حيث يواصل عشرات الجنود المجهولين عملهم في "الثغور "المتقدمة للنهر، بعد أن تركوا وطنهم وودعوا أهلهم من أجل الهدف النبيل،وهو رصد حركة المياه في شريان الحياة الأعظم،ومتابعة ارتفاع النهر وانخفاضه في نقاط عديدة بالسودان..مهمة يومية قد لا يعرف الكثيرون شيئا عنها،ولكنها تبقي المؤشر الأساسي من مؤشرات حياة ملايين المصريين. وفي تجربة فريدة رافقت "الأخبار" العاملين في بعثة الري المصري بالسودان اثناء قيامها بقياس المناسيب والتصرفات، في النيل الأزرق في موقع مدينة الخرطوم قبل التقاء النيلين الأزرق والأبيض في منطقة تسمي ب"مثلث المقرن"، وبدأ اثناء تواجدنا انحسار مياه فيضان النيل، قبل انتهاء الموسم منتصف أكتوبر المقبل،وشاهدنا خلال جولة في النيل الأزرق انحسار الفيضان بموقع الخرطوم إلي عمق 8 أمتار، بدلا من 11 مترا، بينما بلغ إجمالي التصرفات المائية للنيل الأزرق خلال ذروة الفيضان الشهر الماضي 800 مليون متر مكعب يومياً، وانخفضت بعد بدء انحسار الفيضان إلي 350 مليون متر مكعب من المياه يومياً، كما علمنا أنه برغم الآثار المدمرة التي تعرض لها السودان من فيضان العام الحالي، إلا أن مساهمته في إجمالي كميات المياه الواردة لبحيرة السد عبر النيل الأزرق لم تتجاوز 2%، مقارنة بنحو 98% من إجمالي المياه التي تأتي للنيل من الهضبة الإثيوبية. كانت الجولة في منابع النيل الأزرق بصحبة عدد من مهندسي الري المصريين ومعهم 5 من العمال السودانيين العاملين في البعثة للمشاركة في متابعة حالة فيضان النهر وقياس التصرفات المائية للنهر،وكانت المحطة الأولي للجولة في موقع "الخرطوم والثمانينيات"، حيث المجري الرئيسي لنهر النيل بعد أن غمرته مياه النيل الأزرق المتدفقة من الهضبة الاثيوبية، بالإضافة إلي مياه النيل الأبيض القادمة من البحيرات الاستوائية، استقللنا مع البعثة قاربا صغيرا به العديد من الأجهزة لحساب كل قطرة ماء ترد إلي النهر أو أخري تضيع خارجه،حيث يقوم المهندسون المصريون في هذا الموقع بقياس منسوب مياه النيل وسرعة جريانها، وعرض المسطح المائي يوميا من خلال أجهزة متخصصة ذات تقنية عالية تحدد الأعمال بدقة، والمساحات العرضية باستخدام جهاز "السكستال"، كما تحسب كميات الفيضان المقبل باتجاه مصر والسودان قبل وصوله إلي بحيرة ناصر والسد العالي. وكما يوضح المهندس مجدي السيد رئيس بعثة الري المصري في السودان،فان مهمتهم متعددة الأهداف من أجل الرصد المستمر لمناسيب وتصرفات نهر النيل وروافده داخل حدود السودان حتي السد العالي والأعمال المساحية الميدانية لروافد النهر المختلفة.. ويشير المهندس الشابوري ان دور محطات القياس مهم جدا، لذلك فإن الأمر يتطلب إعادة تقييمها من وقت لآخر، ومحاولة توفير الإمكانات والأجهزة الحديثة لتطويرها بهدف ضمان دقة أعمال قياس تصرفات النهر وصحة البيانات الصادرة عن إدارة الري المصري بالسودان،كما يلفت إلي إنه قد تم خلال الفترة الماضية الانتهاء من تأهيل وتطوير بعض محطات قياس تصرفات نهر النيل في مناطق سنار والروصيرص والخرطوم علي النيل الأزرق، بينما جري إعادة تأهيل وتطوير محطات قياس جوبا علي بحر الجبل و»واو« في بحر الغزال، وملكال علي النيل الأبيض، وأشار إلي أنه يجري حاليا التنسيق مع قطاع مياه النيل لتأهيل وتطوير باقي محطات القياس لتزويدها بأجهزة AD«P الحديثة لقياس تصرفات مياه نهر النيل خلال الفيضان، وأوضح أن هذه المحطات ساعدت في تكوين قاعدة عريضة من المعلومات والبيانات الهيدرولوجية عن نهر النيل، وساهمت في كل خطط المشاريع المقامة علي النهر بعد ذلك خلال العقود الماضية.