استمرار توافد الناخبين على اللجان من أجل الادلاء باصواتهم في انتخابات مجلس النواب بالمنيا    مسنودا على عكازين ..مسن يحرص على الإدلاء بصوته في انتخابات النواب بجنوب الأقصر    رئيس الوزراء: المعرض الدولى لتسويق مخرجات البحوث منصة رائدة تدعم الاقتصاد    وزير التموين يفتتح سوق اليوم الواحد بمنطقة بالمرج السبت    أسعار الذهب في قطر اليوم الخميس 11-12-2025    «أسامة ربيع»: نستهدف تحقيق طفرة في جهود توطين الصناعة البحرية    وصول 60 ألف طن قمح روسى لميناء دمياط    رئيس هيئة الاستثمار يشارك في احتفالية شركة قرة انرجى.. 25 عامًا من العمل في مجالات الطاقة والمرافق والبنية التحتية    معلومات الوزراء يناقش مع "اليونيسف" رسم خريطة بيانات لأوضاع الأطفال في مصر    ترامب يعلن موعد إعلان مجلس السلام الخاص بغزة.. تفاصيل    إغلاق مطار بغداد موقتًا أمام الرحلات الجوية بسبب كثافة الضباب    كأس العرب - استبعاد لاعب السعودية حتى نهاية البطولة    ترتيب أبطال أوروبا - أرسنال يحافظ على العلامة الكاملة.. والجولة السابعة بعد أكثر من شهر    طلع على الشط لوحده.. التفاصيل الكاملة لاصطياد تمساح الزوامل بعد حصاره    عمرو مصطفى وزياد ظاظا يحققان 3.5 مليون مشاهدة بأغنية بعتيني ليه (فيديو)    «الكشري المصري» يدخل التاريخ    الليلة.. حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2025    صحة الجيزة ترفع جاهزية الفرق الوقائية استعدادًا لحملة التطعيم ضد مرض الحصبة    صحة غزة: موجات البرد القارس فتحت بابا جديدا للموت    ضبط أكثر من 109 آلاف مخالفة مرورية فى يوم واحد    هجمات بطائرات مسيرة أوكرانية تجبر مطارات موسكو على تعليق عملياتها خلال الليل    قرارات النيابة في واقعة اتهام فرد أمن بالتحرش بأطفال بمدرسة شهيرة بالتجمع    احتفالات في سوريا بعد إلغاء "النواب" الأمريكي قانون قيصر ورفع العقوبات    يوسف القعيد: نجيب محفوظ كان منظمًا بشكل صارم وصاحب رسالة وتفانٍ في إيصالها    أزمة محمد صلاح وليفربول قبل مواجهة برايتون.. تطورات جديدة    قافلة طبية لجامعة بنها بمدرسة برقطا توقع الكشف على 237 حالة    تايلاند تعلن عن أول قتلى مدنيين عقب تجدد الصراع الحدودي مع كمبوديا    تقييم مرموش أمام ريال مدريد من الصحف الإنجليزية    الأهلي ينهي صفقة يزن النعيمات لتدعيم هجومه في يناير    «الوطنية للانتخابات» تعلن تخصيص الخط الساخن 19826 لتلقي الشكاوى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11-12-2025 في محافظة الأقصر    إعتماد تعديل المخطط التفصيلي ل 6 مدن بمحافظتي الشرقية والقليوبية    النشرة المرورية.. كثافات متوسطة للسيارات بمحاور القاهرة والجيزة    بتكلفة 68 مليون جنيه، رئيس جامعة القاهرة يفتتح مشروعات تطوير قصر العيني    طرق الوقاية من الحوداث أثناء سقوط الأمطار    تحريات لكشف تفاصيل مصرع طفلة وإصابة والدتها وشقيقها بعد تناول بسكويت بأكتوبر    مصدران: أمريكا تدرس فرض عقوبات متعلقة بالإرهاب على الأونروا    أحمد بنداري يدعو المواطنين للمشاركة ويحدد رقمًا لتلقي شكاوى الانتخابات    كأس العرب| طموحات فلسطين تصطدم برغبة السعودية في ربع النهائي    مورينيو يكشف أسباب فوز بنفيكا على نابولي في دوري الأبطال    قرار جمهوري بتعيين القاضي مجدى خفاجي رئيسا لمحكمة استئناف قنا    أسعار اللحوم في محافظة أسوان اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    حالة الطقس في السعودية اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    DC تطرح أول بوستر رسمي لفيلم Supergirl    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    سلوى عثمان: أخذت من والدتي التضحية ومن والدي فنيًا الالتزام    وزارة الصحة تطمئن المواطنين: لا وجود لفيروس «ماربورج» في مصر    التحقيق مع شخص يوزع بطاقات دعائية على الناخبين بالطالبية    مراكز الإصلاح والتأهيل فلسفة إصلاحية جديدة.. الإنسان أولًا    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    التحضير لجزء ثانٍ من مسلسل «ورد وشوكولاتة»    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    انتبهي إلى طعامك خلال الأشهر الأولى من الحمل.. إليك قائمة بالمحاذير    أستاذ علوم سياسية: المواطن استعاد ثقته في أن صوته سيصل لمن يختاره    الزوامل والتماسيح: العبث البيئي وثمن الأمن المجتمعي المفقود    التعادل السلبي يحسم موقعة باريس سان جيرمان وأتلتيك بلباو    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    حاسوب القرآن.. طالب بكلية الطب يذهل لجنة التحكيم في مسابقة بورسعيد الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدباء وكتاب أسقطهم التاريخ الأدبي 9
محمد مهران السيد من موظف‮ «‬السكك الحديدية‮» ‬إلي ساحات الشعر الواسعة

في ديوانه الأول‮ "‬بدلا من الكذب‮"‬،‮ ‬والذي صدر عام‮ ‬1967،‮ ‬كان الشاعر محمد مهران السيد قد بلغ‮ ‬الأربعين من عمره‮ ‬،‮ ‬وكان أقرانه من الشعراء‮ ‬،‮ ‬الذين‮ ‬يصغرونه عمرا‮ ‬،‮ ‬قد أصدروا ديوانا تلو الآخر،‮ ‬وهم في بحبوحة الحياة‮ ‬،‮ ‬ورغد الوظائف المرموقة،‮ ‬في ذلك الديوان الذي قدمه الناقد المحترم والرقيق الدكتور عبد القادر القط‮ ‬،وركّز في مقدمته علي ثلاث نقاط أساسية تتجلي في قصائد مهران السيد‮:‬
الأولي تجربة الحب الذي‮ ‬يؤمن به الشاعر،‮ ‬عاطفة نبيلة تحقق الرضا والسعادة برغم ما قد‮ ‬يجلبه إلي النفس أحيانا من ألم أو شعور بالفشل‮.‬
النقطة الثانية‮ ‬،‮ ‬تلك التي تتعلق بتجربة خاضها الشاعر في الحياة العامة‮ ‬،وأورثتها مرارة واضحة‮ ‬،وندما كبيرا‮.‬
أما الملمح الثالث في تجربة الشاعر فيتعلق بإيمانه العميق بالحياة والناس والعمل والمحبة‮ ‬،وكل مايهيئ السعادة والرخاء والكرامة للإنسان علي وجه الأرض‮.‬
وفي الغلاف الأخير للديوان كتب الناقد المرموق‮ ‬_آنذاك_ رجاء النقاش كلمة تقريظية‮ ‬،‮ ‬ذهب فيها لمقارنة مهران السيد بالشاعر الأمريكي‮ "‬والت ويتمان‮"‬،‮ ‬قائلا‮ :"‬إن شعر مهران‮ ‬يذكرني بالشاعر الأمريكي العظيم والت ويتمان‮ ‬،الذي ظهر كالعاصفة في أمريكا في أواخر القرن الماضي‮..‬فكرهته الأوساط الأرستقراطية‮ ‬،وهاجمه نقادها‮ ‬،ولكنه لم‮ ‬يعبأ بهجومهم‮ ‬،بل وقف صامدا‮ ‬يعبر عن أفراح الناس وأحزانهم‮.." ‬،‮ ‬ورغم أن النقاش لا‮ ‬يتورط في مقولة‮ "‬مهران هو ويتمان العرب‮"‬،‮ ‬لكنه‮ ‬يعتبره تلميذا مخلصا وموهوبا في مدرسته العظيمة‮ ‬،‮ ‬من حيث أنه تألم كثيرا‮ ‬،وجرّب كثيرا‮ ‬،وكل تجاربه وآلامه انعكست علي شعره الأصيل‮.‬
وبعد صدور الديوان‮ ‬،‮ ‬لاقت أشعار مهران السيد استقبالا نقديا طيبا بين النقاد والقرّاء والشعراء علي السواء‮ ‬،‮ ‬ثم شارك زميليه حسن توفيق والفلسطيني عز الدين المناصرة في إصدار كتاب شعري مشترك تحت عنوان‮ "‬الدم في الحدائق‮"‬،‮ ‬والذي قدمه الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل‮ ‬،‮ ‬وقال إسماعيل عن قصائد مهران السيد ضمن دراسته‮ :"...‬وحين نتأمل‮ ‬في مجموعة الشاعر محمد مهران تتقاطع أمامنا أربعة خطوط محددة أبعاد الرؤية الشعرية التي تمثلها هذه المجموعة‮ ‬،الخط الأول هو خط الحزن‮ ‬،والخط الثاني هو خط الضياع والغربة‮ ‬،أما الخط الثالث فخط البطلان‮ ‬،بخاصة بطلان تجربة الحب‮ ‬،وأما الخط الرابع والأخير فخط الخلاص‮...".‬
هكذا استقبلت تجربة محمد مهران السيد في بدايتها الثانية‮ ‬،‮ ‬حيث كانت له بداية أولي‮ ‬،‮ ‬ثم انقطعت في عقد الخمسينيات‮ ‬،‮ ‬وذلك لظروف سنسردها لاحقا في هذه السطور‮ ‬،‮ ‬ولكن ما نتساءل عنه وما‮ ‬يشغلني دائما في هذا السياق هو‮ : "‬ما الذي‮ ‬يجعل من شاعر مثل محمد مهران السيد موجودا وليس موجودا‮ ‬،رغم أن شاعريته وقصائده لا تقل جودة وفاعلية وفنّا عن شاعرية وقصائد‮ ‬غيره‮ ‬،‮ ‬والذين وجدوا حظوظا مترامية الشهرة والتقدير علي مدي ماعاشوا ؟‮".‬
وأعتقد أن الصديق الناقد الدكتور سيد البحراوي طرح أسئلة مشابهة حول تجربة مهران السيد،وجاءت أسئلته علي هيئة إجابة‮ ‬،‮ ‬وذلك في الملف الذي أعدته مجلة‮ "‬أدب ونقد‮" ‬عن الشاعر في أكتوبر‮ ‬1995‮ ‬حيث كتب البحراوي قائلا‮ :"‬يعرف جميع قراء محمد مهران السيد أنه واحد من أبرز شعراء العرب المعاصرين‮ ‬،من حيث قيمته الفنية‮ ‬،وليس من حيث الشهرة والشيوع‮ ‬،فمن هذه الناحية‮ ‬،لم‮ ‬يحظ مهران السيد أبدا بما‮ ‬يستحقه من اهتمام نقدي أو إعلامي‮ ‬،وهذا أمر‮ ‬يستحق البحث عن تفسيره‮ ‬،خاصة أن بعض عناصر التفسير متعلقة بطبيعة التجربة الشعرية للشاعر‮ ‬،‮ ‬وقد‮ ‬يمكن القول بأن عدم انتشار عدم انتشار مهران السيد راجع إلي كونه شاعرا فعلا‮ ‬،حيث لم تتعد دواوينه خلال أكثر من أربعين عاما المجموعات الأربع‮ ‬،بالإضافة إلي مسرحيتين شعريتين‮...".‬
وبدوري أحاول أن أبحث عن تفسير للتجاهل النسبي الذي لحق بمهران السيد‮ ‬،‮ ‬وكذلك ببعض مجايليه ورفاقه في التجربة‮ ‬،‮ ‬رغم أن شعرية بعضهم‮ ‬،‮ ‬تفوق شعرية آخرين‮ ‬،وجدوا حظوظا من الشهرة والذيوع والاهتمام النقدي والتكريس والمنافع الأخري مثل الأسفار والترجمات وإقامة الاحتفالات والموالد لبعضهم‮ ‬،‮ ‬وربما‮ ‬يستحق بعضهم كل هذا التكريس‮ ‬،‮ ‬ولكن هناك شعراء‮ ‬يستقلون المركب نفسه،‮ ‬ولا‮ ‬يجدون تلك الاحتفالات،‮ ‬وعلي رأسهم محمد مهران السيد وعبد العليم القباني ومحمد الجيار وفتحي سعيد وعبده بدوي وفوزي العنتيل وكمال عمار وعبد المنعم عواد‮ ‬يوسف وحسن فتح الباب وغيرهم‮.‬
وربما لا أستطيع أن أذهب مثلما ذهب د‮. ‬البحراوي في أن موانع انتشار شاعرنا مهران السيد‮ ‬،‮ ‬تكمن في‮ "‬كونه شاعرا فعلا‮"‬،‮ ‬ولكنني أعتقد أن بعض الشعراء والكتّاب والمبدعين عموما‮ ‬،‮ ‬يسيرون في الحياة الثقافية وهم‮ ‬يتسلحون بميليشيات تروج لهم ولكتاباتهم وتعمل علي تسويق كل ما‮ ‬يبدعونه‮ ‬،‮ ‬وكتب علي المبدع في بلادنا ألا‮ ‬يكتب فقط‮ ‬،‮ ‬ولكنه‮ ‬يكتب بيده اليمني‮ ‬،‮ ‬ويظل‮ ‬يروج لما‮ ‬يكتبه بيده اليسري،‮ ‬ويوزع ابتساماته ومجاملاته علي النقاد والصحفيين وكل مسئولي الإعلام المرئي والمسموع‮ ‬،‮ ‬وحبذا لو كان‮ ‬يحتمي بالعمل في جريدة أو مجلة أو محطة إذاعية أو تلفزيونية أرضية أو فضائية،‮ ‬ولو كان بعضهم‮ ‬يملك كل ذلك بالفعل‮ ‬،‮ ‬ولكن اقتناع البعض من الكتّاب‮ ‬يقف عند كونه‮ ‬يكتب ويبدع فقط‮ ‬،‮ ‬دون أن‮ ‬يفعل أي شئ آخر خارج تلك الوظيفة‮.‬
أعتقد أن مهران السيد كان واحدا من هؤلاء‮ ‬،وكان واحدا من الذين لا‮ ‬يقدمون أنفسهم قرابين للسلطة‮ ‬،‮ ‬فهو الذي قال‮ :‬
‮(‬ذهبت ريح بغاث الشعراء
لمّا‮..‬
صاروا أقفية ودلاء
لما التقطوا‮ ‬
من حجر الخصيان عطاياهم
أو
دفعوا الجزية من لحم الفقراء
لمّا
صار الواحد منهم‮ ..‬
نعلا مهترئا‮..‬
أو
في أفضل حالات البعض‮ ..‬حذاء‮!!".‬
هكذا عبّر مهران السيد عن‮ ‬غضبه‮ ‬،‮ ‬وعن عقيدته‮ ‬،وهو الذي ظل‮ ‬_طوال حياته_خارجا من تيهه الخاص‮ ‬،‮ ‬ومن تجربته المؤلمة‮ ‬،‮ ‬تلك التجربة التي تعرض لها في عام‮ ‬1959،عندما قبض عليه مع كل من‮ ‬ينتمي إلي اليسار‮ ‬،‮ ‬وظل قابعا في معتقلات وسجون السلطة خمس سنوات كاملة‮ ‬،‮ ‬يعاني من ويلات التحقيقات والتعذيب والإهانة وفقدان الكرامة والعزة‮ ‬،‮ ‬ونجد لهذه التجربة في شعره آثارا كثيرة‮ ‬،‮ ‬وعندما صدر ديوانه المشترك‮ "‬الدم في الحدائق‮" ‬عام‮ ‬1969‮ ‬،‮ ‬لم‮ ‬يجرؤ المحرر أن‮ ‬يذكر تلك التجربة صراحة‮ ‬،‮ ‬ولكنه كتب ضمن تعريف الشاعر قائلا‮:"‬فقد كل أشعاره الأولي من عام‮ ‬1950‮ ‬حتي‮ ‬1959‮ ‬نتيجة لظروفه الخاصة‮"‬،‮ ‬وفي المقدمة التي كتبها د‮. ‬القط لديوانه الأول‮ "‬بدلا من الكذب‮" ‬،قال القط‮:"‬أما اللون الثاني‮ ‬فندم علي خوض تجربة خاصة تكشفت له عن كثير من الزيف ومن خيانات الأصدقاء،وربما كان مثل هذه التجربة داعيا إلي التوتر وحدّة الإحساس‮.."‬،‮ ‬وبينما‮ ‬يتحدث مهران السيد عن تلك التجربة في الحوار الذي أجراه معه الصديق مجدي حسنين في ملف‮ "‬أدب ونقد‮"‬،‮ ‬معتزا بتلك التجربة‮ ‬،‮ ‬ومشيدا بها‮ ‬،‮ ‬حيث‮ ‬يقول‮ :"..‬وكنت وحيدا ليس لي إخوة وفي هذا الوضع أحببت العزلة‮ ‬،واهتممت بالقضايا الاجتماعية وبدأت التفتيش عن الأفكار الداعية إلي العدالة متمثلة في الاشتراكية‮ ‬،وعبر صديق لي اسمه‮ "‬محمد حبيب‮" ‬قابلت أعضاء الراية_أحد أهم حزبين شيوعيين كانا في ذلك الوقت_،والغريب أنني لم‮ ‬يجندني أحد‮ ‬،بل كانت لدي الدوافع للانضمام إلي هذا الحزب‮ ‬،وشاركت مكتب المثقفين بالحزب‮ ‬،ولكنني صممت علي العضوية العاملة المنظمة‮ ‬،دون الاكتفاء بمكتب المثقفين‮ ‬،‮ ‬وظللت في هذا النشاط حتي تم اعتقالي عام‮ ‬1959‮ ‬ولم أخرج إلا عام‮ ‬1964،‮ ‬وفي السجن انضممت إلي‮ "‬حدتو_الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني_ التي وجدت فيها اهتماما أكبر بالفنانين والمثقفين عموما‮..".‬
وأؤكد أن الذي لا‮ ‬يعرفه كثيرون عن تجربة مهران السيد في المعتقل‮ ‬،‮ ‬هو الأكثر ظلما وتعنتا وإهانة،‮ ‬فالذي حدث له كان‮ ‬يفوق التصور والخيال من تعذيب‮ ‬،‮ ‬ونحن نطالع ظلال تلك التجربة في معظم ماكتب مهران علي مدي حياته‮ ‬،‮ ‬فهو‮ ‬يقول في ديوانه المشترك‮:‬
‮(..‬وإذا بي في جبّ
لم‮ ‬يتقدم أحد لعناقي
لم‮ ‬يجذب أنظار المارة‮ ..‬فانوس الأشواق
وإذا كل شوارعك الممتدة سور
أسوار لم أعهدها‮ ..‬من قبل
تصدمني فأدور،‮...‬فأدور
أغمض عيني‮ ‬،وأفتحها‮ ..‬لاشئ سوي الأقفال
ومن الأقفال‮ ..‬تظل وجوه‮ ..‬تحمل آلاف العاهات
‮..‬حتي أبوابك والشرفات
قد ختمت بالشمع الأحمر
ووراء الشمع الأحمر‮ ..‬تتنفس جثث الأموات
حيث الأشياء هنالك‮ ..‬لا تكبر أو تصغر‮!!"‬
أما في ديوانه‮ "‬زمن الرطانات‮" ‬فيقول‮:‬
‮"‬ساقوه بليل مفقوء العينين‮ ..‬غريب السحنة والقسمات
زجوه بأرض‮ ..‬غطاها البوم،‮ ‬وفاضت بالحيّات
صمتا‮...‬
فتروس الآلة تخرج أيديها الآن
جحظت عيناه
خرجت من أذنيه‮ .. ‬الآه
‮.. ‬وتأرجح في صمت أثقل من كل ذنوب عباد الله‮..."‬
التجربة تمتد‮ ‬_ألما ومعاناة_ في كل ما كتبه مهران السيد‮ ‬،‮ ‬حتي حينما كان‮ ‬يكتب في الحب‮ ‬،‮ ‬لقد كان‮ ‬يصرخ فقدان الحب والدفء والطمأنينة‮ ‬،‮ ‬فحياته كلها كانت نتيجة ذلك إنزاله عنوة في ذلك الجب الكئيب والمميت‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬يسمي‮ "‬المعتقل‮"‬،‮ ‬وما لم‮ ‬يقله مهران السيد،‮ ‬قالته المحاضر التي جمعها المحامي عادل أمين في مجلدات ضخمة،‮ ‬ففي الجزء السابع‮ ‬،‮ ‬جاء تحت عنوان‮ "‬استجواب محمد مهران السيد موظف بالسكة الحديد سابقا‮" ‬نقتبس منه مايلي‮:‬
‮(‬اعترف بأنه كان‮ ‬يقابل أحمد عبد العال المحامي في الفترة السابقة علي اعتقاله عن اتصاله بالحزب حيث أن اتصاله مقطوع به منذ‮ ‬10‮ ‬يناير الماضي‮ ‬،وكان أحمد عبد العال‮ ‬يشاركه في ذلك حيث أن اتصاله أيضا قد قطع بالحزب‮..‬كما اعترف أنه منضم في الحزب الشيوعي باسم حركي‮ "‬سامح‮ "‬،وأنه كان‮ ‬يتصل بشخص اسمه الحركي‮ "‬جلال‮" ‬ثم انقطع اتصاله به‮ ..‬وكان جلال هذا‮ ‬يشرح له الوضع السياسي الموجود في البلاد ووجهة نظر الحزب فيه‮ ‬،‮ ‬وأن جلال هذا كان‮ ‬يحضر إليه في محطة السكة الحديد في المطرية إذ أنه‮ ‬يعرف مواعيده‮ ‬،وأنه قابله مرتين‮ ..‬ولا‮ ‬يعلم إذا كان قبض عليه أو اعتقل‮ ...‬وعن حقيقة انضمامه للحزب ذكر محمد مهران السيد أنه منذ سنتين كان‮ ‬يختلط بالأدباء‮ ‬،‮ ‬وكان‮ ‬يعرف منهم محمد محمود شندي وكمال عمار وإبراهيم شعراوي وهي أسماء حقيقية وكانوا‮ ‬يتكلمون عن المبادئ الشيوعية وكان كمال عمار هو الذي‮ ‬يقوم بشرح المبادئ الشيوعية له وهو الآن محكوم عليه في قضية شيوعية‮...)‬
ولا أريد أن أسترسل في سرد وقائع محاضر التحقيق‮ ‬،‮ ‬ولكنني أريد أن أشير إلي أن الوقائع التفصيلية للاعترافات‮ ‬،‮ ‬ربما كانت تكمن في حجم الإحباط الذي ظلّ‮ ‬يعاني منه مهران السيد طوال حياته‮ ‬،‮ ‬ويعبّر عنه في قصائده،‮ ‬ربما كان‮ ‬يتجاوزه ببعض بريق من الأمل الذي كان‮ ‬يلوح هنا أو هناك‮ ‬،‮ ‬فيلجأ للتاريخ ليبحث عن الهوية المصرية المفقودة والتائهة أو الضائعة‮ ‬_من وجهة نظره_،‮ ‬لذلك كتب مسرحيتيه التاريخيتين‮ :"‬الحربة والسهم‮ "‬،‮ ‬ثم مسرحيته الثانية‮ "‬حكاية من وادي الملح‮" ‬والتي قدمها له د‮. ‬علي شلش،‮ ‬وقد حظيت بالعرض علي الخشبة وقامت بتمثيلها فرقة‮ "‬الساحر‮" ‬،وأخرجها عبد الرحمن الشافعي،‮ ‬وفي المسرحيتين كان مهران‮ ‬يعود إلي الحياة المصرية القديمة‮ ‬،‮ ‬حيث الألق‮ ‬،‮ ‬والعصر الذهبي للمصريين،‮ ‬ويكتب في ذيل مسرحيته الحربة والسهم‮" :(‬إذا كانت وظيفة الفن أن‮ ‬يطرح الأسئلة‮ ‬،‮ ‬ففي اعتقادي أن من حقه أن‮ ‬يجيب عليها إذا أراد‮...‬وفي هذا حاولت‮ ‬،ومن خلال الوعي بمفهوم الصراع‮ ‬،وفي وجودنا الراهن بكل ما اكتسبناه من خبرة طويلة‮ ‬،تدعمها محصلة ما استخلص من تجارب التاريخ خلال مسيرته العظيمة‮ ‬،‮ ‬حاولت‮..‬أن أعيد صياغة الأسطورة منطلقا من نقطة‮ "‬انتكاسة الخير‮" ‬المؤقتة‮ ‬،‮ ‬ففي الفترة التي تتوسط هذا السقوط والبعث‮ ‬،‮ ‬تعاد صياغة أشياء وأشياء‮ ‬،‮ ‬ويتغير مجري الحياة كلية‮ ‬،‮ ‬ولابد من رحم‮ ‬يحتضن الجنين‮ ‬،‮ ‬يضمه إليه ويحميه‮ ‬،‮ ‬ويغذيه حتي تكتمل خلقته‮ ‬،وحين‮ ‬يصبح تاما‮ ‬،‮ ‬ينطلق‮ ‬غير مخشي عليه من أي عارض‮...).‬
إذن كان مهران‮ ‬يبحث عن خلاص بالشعر وبالأسطورة وبالأمر‮ ‬،‮ ‬فلابد من وجود أو إيجاد‮ "‬رحم‮"‬،‮ ‬حتي لو تغاضي المرء عن آلامه‮ ‬،‮ ‬وهو هنا لم‮ ‬يخالف رفاقه في‮ "‬حدتو‮"‬،‮ ‬والذين كانوا متفقين مع الزعيم جمال عبد الناصر في‮ ‬غالبية خطواته‮ ‬،‮ ‬ويرون أن هناك من‮ ‬يعكّر صفو العلاقة بينه وبينهم‮ ‬،‮ ‬ومن هنا نسوا ما جري لهم في المعتقلات‮ ‬،‮ ‬واعتبروه سحابة صيف طويل‮ ‬،‮ ‬وانقشعت‮ ‬،‮ ‬لذلك نحن نفهم القصيدة التي كتبها مهران السيد‮ ‬،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬بورك زحف الإعصار‮"‬،‮ ‬وكتب تحت العنوان‮ "‬مع عبد الناصر أبدا‮..."‬،‮ ‬ومن‮ ‬يدرك طبيعة مهران السيد الشعرية والاجتماعية والسياسية‮ ‬،‮ ‬لن‮ ‬يصدمه أبدا بأي درجة من درجات الممالأة السياسية‮ ‬،‮ ‬من الممكن أن نقول بأنها الرومانسية‮ ‬،‮ ‬أو التفاؤل‮ ‬،‮ ‬أو حتي البحث عن‮ "‬رحم‮" ‬ليحتضن التجربة‮ ‬،‮ ‬يقول في إحدي فقرات القصيدة‮ :‬
‮(.. ‬ولذلك‮ ...‬لن أبكي أحدا في هذي الأيام
لن أقف طويلا‮ ..‬أجترّ‮ ‬الآلام
فليالي الشجن العاصف‮ ..‬تحت الأعلام‮ ..‬نهار
وحياة الخلصاء‮ ..‬بطولات‮ ‬،وضحايا‮ ‬،وثمار
لكن‮ ..‬سأقول لكم مرحي
بورك زحف الإعصار‮ ‬
يتقدم خلف لواء الألوية‮ ..‬المغوار‮ ‬
خلفك‮ ..‬ياعبد الناصر‮..‬يمضي الأنصار
قوات النور مع النار‮..).‬
هكذا كان مهران السيد‮ ‬يجادل حلمه المستعصي علي التحقق‮ ‬،‮ ‬وربما كان‮ ‬يبحث له عن ذرائع وأجنحة للطيران‮ ‬،‮ ‬ربما كان مقتنعا بنصف الحقيقة‮ ‬،‮ ‬وحاول أن‮ ‬يري الجزء المملوء من الكأس‮ ‬،‮ ‬إنه لم‮ ‬ينجرف تماما خلف حلمه‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬يتوقف كذلك عن التعبير عن هواجسه وبعض أحلامه،هو الذي أتي من مناطق الجنوب‮ ‬،‮ ‬وابن الفقراء في محافظة سوهاج،‮ ‬والذي ولد في عام‮ ‬1927،‮ ‬وعاش علي شعارات الاشتراكية وانضم إلي أحزابها في أعلي تمثيلاتها الواضحة‮ ‬،‮ ‬بل إنه انتمي علي التوالي إلي حزبيها الكبار‮ "‬الراية وحدتو‮"‬،‮ ‬وهو الرفيق‮ "‬سامح‮"‬،‮ ‬والذي كان‮ ‬يعمل موظفا بمحطة المطرية مشرفا علي قسم الاشتراكات‮.‬
أما من الناحية الشعرية‮ ‬،‮ ‬فبقي أن أقول إن مهران السيد بدأ حياته العامة بالنشر في جريدة‮ "‬الزمان‮" ‬في العام‮ ‬1949،‮ ‬وكان‮ ‬يشرف علي‮ "‬ركن الأدب‮" ‬،‮ ‬الشاعر التقليدي‮ "‬محمد الأسمر‮"‬،‮ ‬وكان مهران السيد‮ ‬يكتب القصيدة العمودية جدا‮ ‬،‮ ‬بل إنه كان‮ ‬يقف موقف المعادي لقصيدة التفعيلة‮ ‬،‮ ‬أو الشعر الحر،‮ ‬وكان‮ ‬يري بأن ذلك الشعر سوف‮ ‬يعمل علي تخريب الشعر‮ ‬،‮ ‬حتي تعرّف علي الشاعر عبد المنعم عواد‮ ‬يوسف‮ ‬،‮ ‬فراح‮ ‬يصحبه إلي المنتديات‮ ‬،‮ ‬وكونوا جماعة باسم‮ "‬الفجر الجديد‮" ‬معا‮ ‬،‮ ‬ومعهما أحمد عبد العال‮ ‬،‮ ‬وكان عقد الخمسينيات‮ ‬يعج بمثل هذه الجمعيات‮ ‬،‮ ‬فما المانع أن‮ ‬يكون لمهران السيد،وعبد المنعم عواد‮ ‬يوسف جمعية أيضا،‮ ‬هكذا‮ ‬يتندر مهران السيد في أحد حواراته،‮ ‬وإذا كان مهران السيد قد تخلّي عن تشدده للشعر العمودي‮ ‬،‮ ‬فهو لم‮ ‬يتخلّ‮ ‬عن اشتراكيته‮ ‬،وأن للشعر رسالة واضحة ومباشرة‮ ‬،‮ ‬ويستطيع الشعر كما‮ ‬يعتقد أن‮ ‬يحرر أمة‮ ‬،‮ ‬وينتشل شعبا من الضياع‮ ‬،‮ ‬وفي العام‮ ‬1957‮ ‬تكونت جماعة أخري‮ ‬،‮ ‬وأصدرت ديوانا عنوانه‮ : "‬ديوان الزاحفين‮"‬،‮ ‬وأتذكر أن هذا الديوان الذي ضجّ‮ ‬بالقعقعات والهتافات نال قدرا كبيرا من النقد‮ ‬،‮ ‬وربما السخرية‮ ‬،‮ ‬وكتب البعض في مجلة‮ "‬الآداب‮" ‬عن تلك المدرسة أو الجماعة أو علي الأقل الديوان‮ ‬،‮ ‬وسرعان ما اندثرت تلك المدرسة‮ ‬،‮ ‬ولكن آثارها وظلالها ظلّت باقية تحت شعارات أخري‮ ‬،‮ ‬ربما تطلّ‮ ‬علينا تلك الظلال حتي الآن‮ ‬،‮ ‬ولكن تحت عناوين أخري‮.‬
وعندما تم القبض علي مهران السيد‮ ‬،‮ ‬أخذت المباحث ضمن ما أخذت كل أشعاره‮ ‬،‮ ‬وقصصه ورسوماته‮ ‬_حيث كان‮ ‬يكتب القصة ويرسم أيضا_،‮ ‬وبالطبع لم تعد له بعد الإفراج عنه أي كتابة قديمة‮ ‬،‮ ‬وقد كان مهران السيد قد تخلّي من نفسه عن تمسكه بتلك القصائد القديمة‮ ‬،‮ ‬حتي أنه في دواوينه الأولي لم‮ ‬يضم أي قصيدة من تلك القصائد التي كان‮ ‬ينشرها في صحف ومجلات ذلك الزمن‮.‬
بقي أن أقول إن شعرية مهران السيد كانت شديدة التأثر بشعرية صلاح عبد الصبور وكانت تلك الشعرية سائدة في الخمسينيات بقوة‮ ‬،‮ ‬خاصة عند نجيب سرور وعبد الرحمن الشرقاوي‮ ‬،‮ ‬ولكننا عندما ننسبها إلي صلاح عبد الصبور‮ ‬،‮ ‬فذلك‮ ‬يعود إلي تفرده وتألقه الاستثنائي في التعبير عن تلك الشعرية‮ ‬،‮ ‬وأنا هنا أقصد المنحي الذي ابتدعه الشاعر الانجليزي ت اس إليوت،‮ ‬وهو استخدام مفردات الحياة العادية في الشعر‮ ‬،‮ ‬ولو قارنا علي سبيل المثال قصيدة‮ "‬الناس في بلادي‮" ‬لصلاح عبد الصبور‮ ‬،‮ ‬بقصيدة‮ "‬رسائل في أغسطس‮" ‬لمهران السيد،‮ ‬سنلاحظ ذلك التشابه‮ ‬،‮ ‬ولن استدعي قصيدة عبد الصبور‮ ‬،‮ ‬لأنها تكاد تكون محفوظة‮ ‬،‮ ‬ولكنني أقتبس فقرة من قصيدة مهران السيد التي‮ ‬يقول فيها‮ :‬
‮(‬الناس في بلدي‮ ..‬يعبّون الشجن
ويبادلون الليل‮ ..‬آهات‮ ..‬تطن
موّالهم أبدا‮ ..‬يئن
يستمرئ المأساة‮ ..‬من ألف‮ ..‬وألف‮ ..)‬
وهكذا نجد تشابهات كثيرة بين عبد الصبور ومهران السيد‮ ‬،‮ ‬تلك التشابهات التي لا تفقد مهران خصوصية تجربته الفريدة والنوعية‮ ‬،‮ ‬واعتقد أن الإهداء الذي كتبه مهران السيد في استهلاله لمسرحيته‮ "‬الحربة والسهم‮"‬،‮ ‬والذي‮ ‬يقول فيه‮ :‬
‮(‬إلي مأساة الحلاج
درة المسرح الشعري‮)‬
هنا‮ ‬يكمن تقدير الشاعر للشاعر‮ ‬،‮ ‬دون أي إلماح بأن التشابه دوما‮ ‬يكون نقلا أو تطابقا‮ ‬،‮ ‬فموهبة شاعرنا الراحل محمد مهران السيد‮ ‬،‮ ‬والتي أغفلها النقاد الجدد والقدامي‮ ‬،‮ ‬تنطق بكل محترم وجميل‮ ‬،‮ ‬وتحتاج‮ ‬_بالفعل_إلي إعادة قراءة وتقييم‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.