جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي 2025 الترم الثاني في محافظة البحيرة    دينية النواب تقر نهائيا قانونا جديدا لمواجهة فوضى الفتاوى والأزهر يعلن رفضه    مجلس مدينة الحسنة يواصل إزالة الآثار الناجمة عن السيول بوسط سيناء    الكهرباء تبحث مع وفد مؤسسة التمويل الدولية iFC سبل دعم مجالات الطاقة المتجددة    «المشاط» تتابع مع المفوضية الأوروبية تنفيذ ثاني مراحل آلية مساندة الاقتصاد الكلي    وحدة السكان في الشرقية تنظم 15 ندوة للتوعية بالقضية السكانية    السعودية تفرض غرامة 100 ألف ريال بحق ناقلي حاملي تأشيرات الزيارة إلى مكة خلال موسم الحج    السيسي يؤكد ضرورة التركيز على زيادة احتياطي النقد الأجنبي وخفض مديونية الموازنة    عاجل- الرئيس السيسي يجتمع مع رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية    مسئول طبي بغزة: جميع مستشفيات القطاع مهددة بالتوقف    روسيا تشن هجوما هائلا بطائرات مسيرة على أوديسا وخاركيف    وسائل إعلام حوثية: ارتفاع عدد القتلى من جراء القصف الإسرائيلي على الحديدة إلى 4    باكستان: استخدام الهند اتفاقية نهر السند كورقة ضغط غير مقبول    هيرنانديز هيرنانديز حكما لكلاسيكو الليجا بين برشلونة وريال مدريد    الزمالك: نعمل على سداد مستحقات باتشيكو وبوطيب    خلافات بسبب الآثار.. أمن القاهرة ينجح في تحرير شخصين من الاختطاف    18 مايو.. بدء محاكمة مرتضى منصور في اتهامه بسب خالد يوسف وزوجته    بعد قليل.. جنازة الفنان نعيم عيسى من الإسكندرية    عرض «منتهي الصلاحية» يشارك في مهرجان التجارب النوعية على مسرح قصر ثقافة روض الفرج    «لا يرفعون صوتهم مهما حدث».. 5 أبراج تتسم بالهدوء (تعرف عليهم)    جامعة أسوان تفتح آفاق الوعي السينمائي للطالبات عبر مهرجان أفلام المرأة الدولي    التضامن فريق التدخل السريع تعامل مع 500 بلاغ في مختلف المحافظات خلال شهر إبريل    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    الصحة: تقديم الخدمات العلاجية ل339 ألف مواطن من خلال القوافل الطبية خلال الربع الأول من العام الجاري    محافظ أسوان يترأس اجتماع المجلس الإقليمى للسكان    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج على القانون    محافظة دمياط تستعد لامتحانات نهاية العام    كم يوم متبقي حتى عيد الأضحى 2025 ؟    البرلمان الألماني: ميرتس لم يحصل على الأغلبية المطلقة لمنصب المستشار في الجولة الأولى    صحيفة: وزير الدفاع الأمريكي استخدم "سيجنال" في محادثات تضمنت خططا عسكرية سرية    وزير الشباب والرياضة: الاستماع للشباب ركيزة لصنع السياسات ومحاربة التطرف    قرار عاجل من التعليم لإعادة تعيين العاملين من حملة المؤهلات العليا (مستند)    شوبير: الأهلي استقر على مدربه الجديد من بين خمسة مرشحين    سلمى أبو ضيف تحتفل بعيد ميلاد زوجها بطريقة رومانسية    "هذه أحكام كرة القدم".. لاعب الزمالك يوجه رسالة مؤثرة للجماهير    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 6-5-2025 في محافظة قنا    زيادة السولار والبنزين تعمق من انكماش أداء القطاع الخاص بمصر بأبريل    البيئة: خط إنتاج لإعادة تدوير الإطارات المستعملة بطاقة 50 ألف طن    مدير التأمين الصحى بالقليوبية تتابع جاهزية الطوارئ والخدمات الطبية بمستشفى النيل    منتخب شباب اليد يقص شريط مواجهاته في كأس العرب بلقاء العراق    ضبط (18) طن دقيق مدعم قبل بيعها بالسوق السوداء    وزير الثقافة يطلق مشروع "أهلا وسهلا بالطلبة" بتخفيض 50% للمسارح والمتاحف    «الداخلية»: ضبط شخص عرض سيارة غير قابلة للترخيص للبيع عبر «فيس بوك»    مصر تدين الاستهداف المكثف للمنشآت والبنى التحتية المدنية في بورسودان    فاضل 31 يوما.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    إيران: نحتاج الطاقة النووية للاستخدام السلمى وعلى الطرف الآخر إثبات حسن نيته    صور حديثة تكشف أزمة بسد النهضة، والخبراء: التوربينات توقفت وإثيوبيا تفشل في تصريف المياه    مدرب كريستال بالاس: هذا ما يجب علينا تقبله    «الصحة» تستعرض إنجازات إدارة الغسيل الكلوي خلال الربع الأول من 2025    النيابة تأمر بإيداع 3 أطفال بدار إيواء بعد إصابة طفل بطلق ناري بكفر الشيخ    السعادة تغمر مدرب جيرونا بعد الفوز الأول بالليجا منذ 3 أشهر    الزمالك يستقر على رحيل بيسيرو    «العمل» تعلن عن 280 وظيفة للشباب بالشركة الوطنية لصناعات السكك الحديدية    ما علاقة الشيطان بالنفس؟.. عالم أزهري يوضح    تشغيل وحدة علاجية لخدمة مرضى الثلاسيميا والهيموفيليا في مستشفى السنبلاوين العام بالدقهلية    طرح فيلم «هيبتا المناظرة الأخيرة» الجزء الثاني في السينمات بهذا الموعد؟    هل يجوز الحديث مع الغير أثناء الطواف.. الأزهر يوضح    مؤتمر منظمة المرأة العربية يبحث "فرص النساء في الفضاء السيبراني و مواجهة العنف التكنولوجي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد إبراهيم أبو سنة
خمسون عاماً علي صدور ديوانه الأول وصدور أعماله الشعرية
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 05 - 2015

بالتأكيد كانت الأحواء السياسية ملبدة بالغيوم والأحاجي المعقدة ،وكذلك كانت الثقافة تعمل بشكل أو بآخر في بلاط السلطة، وهناك من كان يحاول الإيغال في القيام بتزويق هذا البلاط ،وهناك أيضا من تمرّس بشكل أو بآخر علي تملق هذه السلطة المانحة للمناصب والعطايا المختلفة ،والمانعة لها تماما عند أول تمرد يلوح في الأفق ،وكان هذا هو المتن الذي يحرك الآلة الثقافية الضخمة ،والتي كانت وزارة الثقافة تقودها في عهد ثروت عكاشة أو سليمان حزين ومن كانوا تحتهما في المناصب أو السلم الوظيفي المعقد والمتعدد الطبقات.
وكان من الطبيعي أن نقرأ للناقد الكبير الدكتور لويس عوض ،عندما أصدر الطبعة الأولي من كتابه "دراسات في النظم والمذاهب"عام 1962 إهداءه إلي أحد قيادات السلطة ،إذ يقول الإهداء "إلي الدكتور عبد القادر حاتم ..لاهتمامه العظيم بالمذاهب والنظم"،ومن المألوف أن يطالعنا شكر الكاتب يوسف الشاروني للدكتور ثروت عكاشة ،عند صدور الطبعة الأولي لكتابه الشعري أو الغنائي "المساء الأخير"عام 1963، وعند نشر الطبعات التالية لهذه الكتب وغيرها تم حذف مثل هذه الأمور،إذ كانت هذه ضرائب شبه جبرية يدفعها المثقفون والمبدعون والكتّاب لرجال السلطة بطرق عديدة،ولا يستطيع الباحث أن يتعرف علي النوايا والمقاصد الحقيقية لماهية هذه الضرائب ،هل كان يبذلها المثقفون عن طيب خاطر واقتناع تام ،أو حتي هذا الاقتناع النسبي ؟أم أنها تأتي في سياق ممالأة ومجاملة رجال السلطة بهذه التوابل الزائدة عن الحاجة، لذلك تختلط عناصر الرضا السامي عن رجال السلطة ،بعناصر الرفض التي كانت تتحرك عند مبدعين آخرين.
وبداية لا بدّ أن نقر أن نهضة ثقافية لا جدال ولا لجاجة في ذلك آنذاك ،فكانت هناك مجلات المسرح والسينما والكاتب والقصة والشعر وتراث الإنسانية ،وسلسلة "أعلام العرب" وغير ذلك من إصدارات ،وكانت مسرحيات سعد الدين وهبة ونعمان عاشور ومحمود دياب ونجيب سرور وميخائيل رومان تزدهر بقوة،ولكن هذه النهضة كلها كانت تحت المراقبة الحديدية ،وتحت المجهر الحاد الذي كان يزرعه جهاز السلطة في كل "خرم إبرة ثقافي"ليتسقّط أخبار الذين مازالوا علي عهودهم القديمة لمقاومة هذه السلطة .
في ذلك الوقت كان اليسار يعاود مرة أخري مصالحة جديدة ،بعد الإفراج الجماعي والتتابعي عن مثقفيه وكتابه ومبدعيه ،فخرج محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ولطفي الخولي وكمال عبد الحليم ولويس عوض وألفريد فرج وشريف حتاتة وصنع الله ابراهيم وكمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم وفؤاد حداد وابراهيم فتحي وفخري لبيب ونبيل زكي وفتحي عبد الفتاح وإلهام سيف النصر ومحمد خليل قاسم ورفعت السعيد ومئات غيرهم من أبناء اليسار ،ليحظي بعض من هؤلاء بمقاعد وثيرة في دست الحكم والسلطة ،والتعاون مع هذه السلطة في ظل أجواء وطنية بعضها حقيقي ،والبعض الآخر كان مفتعلا لتسيير السفينة،ويذهب آخرون إلي الشارع الواسع ،حيث لا عمل ولا مؤسسة تحتوي هؤلاء الشاردين مثل القيادات اليسارية الأخري.
ولا مجال هنا لإعداد مهاد تاريخي حول الظروف والملابسات التي كانت تحيط باللحظة الثقافية آنذاك ،والتي ظهر فيها ديوان الشاعر الشاب والموهوب محمد ابراهيم أبو سنة ،عام 1965،الديوان ذو العنوان البسيط والجميل واللافت ،وهو ديوان "قلبي وغازلة الثوب الأزرق"،وقد صدّره الشاعر بإهداء مغاير يقول فيه :"إلي الذين يصرّون علي إنقاذ الحب ومجد الإنسان...
"إن كان غيري قد يعزف في ناي ذهب
فاغتفر ياشعب أن أعزف في ناي حطب
ليس في الآلة حسّ ..إن في الروح الطرب
أنا ماجئت أغنّي ..إنما جئت محب".
إذن فهو شاعر جاء ليدشّن أيديولوجية الحب والأمل بشكل ما ،وإن كان غيره من رموز تلك اللحظة راحوا يعزفون علي نايات الذهب ،والذين يقدرون علي إصدار ألحان مريحة ،فهو يعتذر لشعبه ،لأنه شاعر مختلف ،وربما يكون نقيضا لكل هؤلاء ،فهو لا يملك سوي هذا الناي الخشن واليابس والذي يشبه الحطب ،وبالتالي لن تصدر منه سوي هذه الألحان الموجعة والمتألمة ،ولكنها متفائلة ،ومتكاملة في رؤيتها الفتية والعفية والمفعمة بروح الشباب الفائر.
الديوان وقصائده كان بمثابة جدارية للألم والأمل في وقت واحد ،هذه الجدارية قامت علي قراءة الواقع قراءة ممزوجة بالنقد ،فاللغة جاءت لوّامة وعاتبة وجارحة وناقدة في سياقات صورية ولغوية وأسلوبية مختلفة ،واستطاعت أن تفلت من سطوة اللغات الشعرية المؤثرة في ذلك الوقت ،أقصد لغة صلاح عبد الصبور ،ولغة أحمد عبد المعطي حجازي ،وهذا الإفلات لم يستطع عليه إلا الشعراء الذين قدموا تجاريب مختلفة وناضجة ،واكتمل نضجها فيما بعد بشكل كبير ،وكان من بين هؤلاء الشاعر محمد ابراهيم أبوسنة.
لذلك كان لا بد أن نقرأه ونتلمس نقده ولومه وعتابه الذي يصل إلي حد الهجوم ،ففي قصيدته "الدمعة والسيف" يقول:
(أن نتقاتل في منتصف الليل
أن لا يجد الموتي في هذا الدغل
من يبكيهم أو يتلو لهم الصلوات
أن تصبح كل طقوس الحقد شعار العالم
أن تتحجر كل البسمات
في وجه ظالم
أن يتآكل في الظل جميع الضعفاء
أن تنمو عاصفة سوداء
تستقبل ميلاد الأطفال
أن ينحل عناق العشاق
كي تنمو أجنحة الخوف
لاشئ سوي الدمعة والسيف
هذا ميراث الأجيال
الدمعة والسيف
أن نجلس في شرفتنا
نتذكر خدعتنا
في حب مات
في طفل ما أنجبناه
في عمر يورق أحلاما ماعشناه
في وجه قابلناه وتاه
في لحن ما غنيناه
في سر كنا نتمني لو قلناه
في ندم عما نحن أضعناه
عما نحن جنيناه
في قولة آه
في زمن تخجل فيه الأصول
أن تتعري في وجه الليل....)
وتظل القصيدة تسرد وتسترسل في هدوء موجع ومكتوم إذا صحّ التعبير،وتشحن روح القارئ بهذا الخطاب الفني المتماسك ،والذي يرفع إصبعا مدمّاة بما أريق في ظل هذه المساخر المنصوبة ،والشاعر هنا لا يدين أحدا بعينه ،ولا يعيّن جهة أو شخصا أو حدثا ما ،وليس هذا هو دور الشاعر ،بل هذا دور الهتّافين الذين يترامون علي الجانبين ،أي الجانب المتماهي مع السلطة السائدة والحاكمة ،والمنتمي بقوة إلي خطابها ،ويردده ،ويزيده ثباتا ،أو ذلك الخطاب الرافض ،والذي يصل إلي حد الصراخ المزعج ،والذي ينتمي إلي الغوغائية ،بالقدر الذي يبتعد فيه عن الفن.
محمد ابراهيم أبو سنة راح يبني عالمه الخاص ،هذا العالم الذي اجتهد باقتدار في تشييده بصوره الفريدة ،وصوته الشجي والعذب الجميل ،فجاءت الصورة خادمة للمعني ،وليست نشازا ،أو نتوءا كما نلاحظها عند آخرين ،وربما رقة الصورة أو حدّتها المفرطة ،كانت هي التعبير الأقصي والأقسي للشاعر ،عندما يريد أن يهجو أو يدين ،أو عندما يعشق ويحب ويرفل في ثوب البهجة.
فهاهو يصف ويصوّر الفقراء والمحتاجين :
(قابلتهم في شارع المدينة الحزين
البائع الذي تكومت علي سلاله القشور
يعود في المساء
شباكه تصلبت هناك فوق ناتئ الصخور
لا لون للنجوم في سمائه ،لا ظل للنجوم)
وها هو يكتب حبا في جمال عبد الناصر :
(ياحب بلادي الأول
تبحر في عينيك الآمال
تبدأ رحلتها
بين خمائل هذا الحب الأجيال
في مصر العليا يخفق قلبك
في الأغنية الصخرية
فوق جواد مندفع أبيض
في أحجار السد
يخفق قلبك..)
محمد ابراهيم أبو سنة يرسل قصيدته مفعمة بالصدق الفني والواقعي في آن واحد والصورة الفنية هي التي تحكمه في البداية ،وهي التي تنبني عليها القصيدة ،كما يصرّح بذلك أكثر من مرة في حواراته ،وهو لا يلهث خلف إنشاء القصيدة، بل القصيدة تطارده ،وربما تأتي مفاجئة له ،وربما تداهم روحه دون أن يكون مستعدا لها ،ولكنه يستقبلها ،ويروّض الكلمات والصور والجمل والمعاني التي اقتحمته ،ويعمل علي بنائها كما يليق بقصيدة ،وكما يليق بشاعر.
وحظي أبوسنة بدراسات نقدية كثيرة ،فكتب عنه محمود أمين العالم وعبد القادر القط ومصطفي عبداللطيف السحرتي ، ومحمد عبد المطلب ووليد منير ولويس عوض الذي كتب عنه ثلاث دراسات في صحيفة الأهرام ،وأعاد نشر هذه الدراسات في كتابه "دراسات أدبية"،وناقشه في تفصيلات عديدة ،وأصدر الشاعر بعد ديوانه الأول عدة دواوين أخري، منها "حديقة الشتاء"و"الصراخ في الآبار القديمة "و"أجراس المساء"و"تأملات في المدن الحجرية"و"البحر موعدنا" و"مرايا النهار البعيد"و"رماد الأسئلة الخضراء"و"رقصات نيلية"،وغيرها من الدواوين.
كذلك أصدر أبو سنة مسرحيتين شعريتين هما "حصار القلعة"و"حمزة العرب"،وربما توقف عن كتابة المسرح الشعري ، نتيجة للإحباط الذي اعتراه ،لأن المسرح لا يكتمل إلا بظهوره في مكانه الطبيعي ،وهو الخشبة الخالدة ،والتي بدونها يظل النص فاقدا لمناخه الطبيعي ،ويظل مجرد نص أدبي لا غير،غير أن من يتأمل تجربة أبي سنة الشعرية في كافة تجلياتها القصائدية ،سيلاحظ أن حسّا دراميا يتجسد بشكل واضح في هذه التجليات ،وربما يكون وصول النص المسرحي الشعري إلي الخشبة ،لا يتعلق بقيمته ،بقدر مايتعلق بقدرة صاحبه نفسه علي توصيله ،لذلك فالمسرح الشعري يعاني من عوار فادح، والتجارب التي قدمها صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب سرور وغيرهم من شعراء قليل ، لا يكفي بأن نقول إننا قدمنا تجربة كافية في المسرح الشعري ،وإمعان غالبية الشعراء في الابتعاد عن الكتابة للمسرح،عيب واضح جدا ،فلا فاروق شوشة ولا حسن توفيق ولا بدر توفيق ولا أمل دنقل ولا محمد عفيفي مطر ولا كمال عمار اقتربوا من الكتابة للمسرح ،لذلك كانت تجارب محمد ابراهيم أبوسنة ومحمد مهران السيد علي سبيل المثال ،فتحا في هذا الجدار الصخري العتيد ،ويبدو أن مسألة اقتحامه فيما بعد لن تكون سهلة ،أو ميسرة ،وهذا يعود لسيطرة وهيمنة الحسّ التجاري والتسويقي في هذا المجال.
ولم يكتف أبو سنة بكتابة الشعر فقط ،والذي صدر مجمعا مؤخرا في أربعة مجلدات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ،ولم يكتف كذلك بالكتابة القليلة للمسرح الشعري ،بل إن له مجالان بارزان في تجربته الثقافية المحترمة ، وتجربته الأولي وهي في إذاعة البرنامج الثاني حسب التسمية القديمة ،أو البرنامج الثقافي حسب التسمية الجديدة ،وفيها قدم أصواتا شعرية كثيرة،وبرامج شعرية متعددة ،وفتح نافذة صوتية أخري للشعر،بعيدا عن الندوات والصالونات الأدبية ،فكان يلتقي دوما مع جمهور المستمعين بصوته العذب والشجي ،ليقرأ قصائد لشعراء آخرين من كل الأجيال ،ومن كل العصور ،وكان حقا مثالا للشاعر النزيه ،الذي يحكّم هواه الاجتماعي في تقديم هذا أو تأخير ذلك ،أو منع تلك ،كما يفعل آخرون في كافة مجالات الثقافة.
أما المجال الآخر ،فهو مجال الدرس الأدبي ،وهذا المجال ينقسم إلي ثلاثة فروع ،إذ أنه كان مغرما بتقديم جديد لشعراء قدامي ،مثل المتنبي والشريف الرضي وعروة بن حزام ومالك بن الريب وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم من الشعراء،وآخر إصداراته في هذا المجال كتاب "قصائد لا تموت"،ورغم إدراكه بأن القصائد التي يعيد تقديمها وقراءتها قرأها آخرون من قبل ،إلا أنه مؤمن بأن كل شاعر له ذائقة مختلفة ،ومتجددة ،ونوعية ،وربما يكتشف خيطا جديدا ،يؤدي إلي نتيجة جديدة كانت كامنة في القصيدة ،واختفت عن كل ماسبقوه في القراءة،وهذا مافعله مع قصيدة المتنبي التي رثي فيها جدته ،فاكتشف اكتشافات جديدة ،فالمتنبي الذي يرسل نحيبا ،ويذرف دموعا علي جدته التي ماتت بسبب فرحتها له وبه ،لم ينس أن يتيه بنفسه ،أي أنه راح يمدح نفسه ،في مقام رثاء جدته ،وأظن أن هذه القراءة وتتابعاتها في دراسة أبي سنة جاءت جديدة بالنسبة لي علي الأقل ،كذلك إعادة قراءة قصيدته "واحر قلباه"،التي يعتب فيها علي سيف الدولة ،يسوق أبو سنة تفسيرات وتأويلات نقدية ،تتعلق بعلاقة الشاعر بقضيته ،وترفعه تماما عن مديح الآخر دون أن يمدح نفسه ،هذه النفس الأماّارة طوال الوقت بالترفع والتيه والافتتان بهذا التعدد الفني والثقافي الذي كان يحيط بتجربة المتنبي ،ولا يتماهي أبو سنة مع قصائد الشعراء الذين يقدم قراؤاته لقصائدهم ،بل أنه يقدّم كذلك بعض مؤاخذاته الفنية أو الأسلوبية لتلك القصيدة ، أو لذاك الشاعر.
والفرع الثاني دأب أبو سنة علي تقديم شعراء جدد ،وكتب عنهم مقالات نقدية ،وربما أغفل بعضهم ،وهذا لأن بعض الشعراء كانوا عازفين عن تقديم أنفسهم ،ربما خجلا ،وربما تعففا ،وربما ابتعادا عن آلة الإعلام الصاخبة ،ولذلك نجده يكتب عن شعراء موجودين بالفعل ،وربما استهلكتهم الكتابات النقدية هنا وهناك ،وهو بالطبع كان يقدم قراءاته بحياد شديد ، وموضوعية محمودة ،وبالتالي فهو لن يبحث عن الشعراء هنا أو هناك لكي يقدمهم أو يكتب عنهم ،ولكنه كتب مشكورا عن ماتوفر أمامه من دواوين ،وضم قراءاته هذه إلي كتبه النقدية العديدة ،مثل كتبه "أصوات وأصداء"و"تجارب نقدية وقضايا أدبية"و"ظلال مضيئة".
أما الفرع الثالث في النقد ،فهو يتعلق بقضايا أدبية ظلت مشرعة في الساحة الثقافية طويلا ،مثل مشروعية قصيدة النثر ، وعندما ذهب لمناقشة هذه القضية ،لم يكتف بما أتي به الشعراء والنقاد الحداثيين الجدد ،بل أنه راح ليستدعي قدامة بن جعفر وآخرين من التراث الشعري العربي القديم ،ليكونوا شاهدين معه علي هذا النوع من الكتابة ،وراح يستدعي كافة التعريفات القديمة والجديدة ،ليستخلص معني الشعر أساسا ،وبعد ذلك يستطيع أن يطلق أحكامه أو أسئلته باطمئنان ،وعندما يصل إلي نتيجة ما ،فهو لا يطرحها كبديل صارم أو مطلق عن اقتراحات الآخرين،وهذا ما يحقق صفة العدل النقدي في غالبية مايكتبه أبو سنة من نقد ومن وجهات نظر،تعمل علي التأمل ،أكثر مما تحمل آلة الحسم والقطع التي يصدرّها لتنا آخرون ،في يقين لا يردّ.
ولذلك فهو لم يتقوقع في الكتابة عن الشعر والقضايا الشعرية فقط،بل إنه كتب عن الترجمة وعن نجيب محفوظ وعن قضايا أخري كثيرة.
محمد ابراهيم أبوسنة الذي أبدع كل هذه الأوجه الثقافية ،هذا الإبداع ..الضرورة ،وليس الإبداع المترف ،هذا الشاعر الكبير ،كان قد تبقي تعليمه في الأزهر ،وارتدي العمامة ،وحفظ القرآن ،وكانت أحدث التجارب الشعرية اتي كانت مقررة علي طلبة الأزهر ،تنتمي إلي العصر الأموي ،وتبعا لذلك كتب أبو سنة الشعر العمودي بل يخبرنا في أحد حواراته بأنه كتب قصائد يهجو فيها الشعر الحر ،ولكنه عندما جاء إلي القاهرة ،ليلتحق بكلية الدراسات الأدبية عام 1950،وشهد المظاهرات ،والاحتجاجات ،وكل صنوف التمرد ،تاقت نفسه إلي مشاركة هؤلاء في احتجاجاتهم ،وبالتالي أحدثت هذه الظواهر زلزالا ما في نفس الفتي القادم من القرية ،ثم التقي بديوان "قرارة الموجة" للشاعرة العراقية نازك الملائكة عام 1957،وكان هذا هو الزلزال الثاني ،بعدها راح يكتب قصائده الحديثة ،ونشر أولي قصائده في فبراير 1959 بقصيدة المساء،وكان قد التقي بجماعة "شعراء القلعة"،وكان يدخل معهم في جدل عنيف ،حتي كان صديقه الشاعر كمال عمار ، والذي يكتب أبو سنة ممتنا له ولدوره في تعريفه بكل أشكال الشعر الحدث ،وكان أبو سنة في عام 1957 قد بلغ سن العشرين من عمره ،حيث إنه من مواليد 15 مارس 1937.
الشاعر الكبير محمد ابراهيم أبو سنة قيمة إبداعية كبيرة ،نحتاج بالفعل إلي تكريم القيمة والقامة ،أكثر مما يحتاج هو إلي ذلك،فهو قد أدي دوره بالقدر الكافي،ويبقي دورنا نحن بعد ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.