شهدت الساحة الأدبية خلال الآونة القليلة الماضية، طوفانًا من الدواوين الجديدة لشعراء شباب، يروج لها بأساليب عدة أبرزها: "الفيس بوك"، والمدونات الشخصية، الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات، منها: هل تعني هذه الكثرة زيادة في أعداد المبدعين؛ أم أنها مجرد إرهاصات يكتنفها غياب الموهبة الحقيقية؟.. وكيف ينظر المبدعون الكبار لهذه الدواوين؟.. بل ولماذا يدعم الناشر ديوانًا متوسط القيمة ويروج له؟.. "صوت البلد" خاضت غمار الصراع المشتعل بين جيل الكبار والشباب، للبحث عن إجابة لتساؤلاتها: الصراع علي عرش الشعر العربي.. هل يحسمه الكبار كالعادة، أم ستكون الغلبة للصغار هذه المرة؟ ففي وقت من الأوقات كانت الساحة الثقافية تشهد شابًا يدعي إبراهيم ناجي، والذي أصدر ديوانه الأول "وراء الغمام"، وتعرض بعده لنقد لاذع وهجوم شديد من طه حسين والعقاد، فتوقف ناجي عن كتابة الشعر سبع سنوات، وعلي أثر ذلك كتب طه حسين مقالة بعنوان: "إلي إبراهيم ناجي"، وخاطبه فيها قائلا: "إذا كان ناجي شاعرًا كبيرًا فليعد إلي الشعر".. وكانت هذه تمثل حالة ثقافية بين الشعراء الصغار والكبار في وقت من الأوقات. وخلال الوقت الراهن، يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي رئيس لجنة الشعر: إن هذه الظاهرة تعد إيجابية، بل وتشير إلي الرغبة في تحقيق الذات، والتحرر من سيطرة المؤسسات الحكومية والخاصة، والتنفيس بعيدا عن الإعلام الذي لا يهتم بهم بما يكفي.. وأوضح: إننا في عصر يرغب فيه الشباب في التعبير عن أنفسهم بحرية بعيدا عن المؤسسات الثقافية التي تسيطر عليها البيروقراطية، أو تلك التي تتحمس للمشاهير والكبار فقط.. وأضاف: أنا أشجعهم علي النشر الورقي أكثر من الإلكتروني، نظرًا لكون الإنترنت لا يزال وسيلة لا تحقق العلنية الكاملة للمنتج الإبداعي بل إنه يكتفي بجمهوره الخاص. أما عن انتشار العامية، في معظم تلك الدواوين، فألمح إلي أنها ظاهرة مؤسفة، وهذه يرجع إلي ضعف القراءة لدي الجيل الحالي وعدم الاطلاع علي التراث الشعري العربي، كما أنهم يتعجلون الشهرة، لذا يختارون الكتابة بالعامية ليحققوا الانتشار الكبير من قبل شرائح أعرض من الجمهور. ويقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة: إن سيطرة العامية، لا شك تهدد الحركة الشعرية؛ فالفصحي لغة تواصل العصور المختلفة بعمقها وقيمتها وثباتها، عكس العامية التي تتغير سريعا وتستوعب ألفاظا جديدة وتتجاهل ألفاظا أخري.. وأضاف: إن الشاعر الذي يريد الاستمرار فعليه بالفصحي.. وفي رده علي إمكانية خضوع تلك الدواوين لجهة رقابية تعمل علي تنقيتها قبل صدورها، قال: الحل ليس في الرقابة بل في تنشيط الحركة النقدية وتوجيه أصحاب تلك المواهب. أما الشاعر المصري فاروق شوشة، فقال: لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك ثورة شعرية تتسم بالثراء والتنوع، بل إنها تتجاور الأشكال الشعرية المختلفة سواء كانت قصيدة تفعيلة أو نثرًا.. كما يمكنني أن أشير إلي تجارب شعرية مميزة مثل الشاعر تامر فتحي، ومحمد أبو زيد، وغيرهما، إضافة للتجربة المميزة لشاعر العامية سالم الشهباني، وكلهم شعراء شباب يعملون علي مشاريعهم الإبداعية ويحاولون أن يعبدوا مساراً شعرياً خاصاً بهم. وفيما يخص لجوء شباب الشعراء للإنترنت للترويج لكتاباتهم، يقول شوشة: هي مسألة منطقية خاصة في هذا الجو الخانق والضعف الأدبية غير المتطورة، فأصبح الشعراء يعتمدون علي أنفسهم في الترويج لدواوينهم ، ولكنني أدعوهم لئلا ينشغلوا بهذه الأمور بل لابد من التركيز الأكبر علي الإبداعات. أما الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، فأضاف: تبلورت التجارب الشعرية الأخيرة بشكل عرف بقصيدة "الومضة"، وهي قصيدة تتسم بالكثافة والإيجاز والقصر الشديد وهي تلائم القارئ المعاصر الذي لم يعد يجد نفسه ميالاً لقراءة.. لذا فهو يري أن إقبال الشباب علي كتابة الشعر علي هذا النحو يتفق وطبيعة العصر الذي تستثمر فيه فضائات الإنترنت واللغة السريعة والصورة الشعرية الرامزة المقتضبة، الأمر الذي يفسر سر إقبال الكثير من الشباب علي نظم الشعر والمبادرة بنشر قصائدهم. وعن استخدام العامية، يقول: العامية ليست مشكلة بذاتها؛ فديوان شعر العامية له ميراث كبير في مصر والمنطقة العربية، بل إنه ينبض بأوجاع الأمة وآلامها وأشواقها؛ فظهر في المشهد الشعري فؤاد حداد، وصلاح جاهين وفؤاد قاعود.. ولا شك أن نزوح شريحة كبيرة من الشعراء الجدد لنظم شعر العامية هو امتداد لهذا الميراث ، فضلاً علي أن العامية قادرة علي النفاذ لشريحة أكثر اتساعاً من المتلقين والقراء. وعلي الصعيد الآخر، فقد اختمت خلال الفترة القريبة الماضية، فعاليات مهرجان "سوق عكاظ السادس لشعر الفصحي" بمقر ساقية الصاوي، بالقاهرة، والذي هدف إلي التعرف علي الإبداع الشعري القديم والمعاصر، واستعادة روح سوق عكاظ الذي كان بمثابة منتدي عربي يجمع الشعراء من مختلف البلدان العربية ليعرضوا أحدث وأهم إنجازاتهم في الشعر الذي كان ولا يزال ديوان العرب. ابتدأ المهرجان بمائدة مستديرة لمناقشة: "ماذا يريد الشعراء الشباب من الشعراء الكبار؟"، تلتها أمسية شعرية ألقي خلالها شباب الشعراء بعضًا من قصائدهم، وخلال الفعاليات أقيمت مائدة أخري حول: "مدي تأثر الكتابات الشعرية المعاصرة بالمدارس التقليدية"، تلتها احتفالية حول المشوار الشعري للشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، إضافة إلي مناقشة حول "التجديد في مسيرة الشعر العربي". ويقول محمود قرني عضو لجنة الشعر: إن علاقة الشعراء الشباب والكبار تدل في أعماقها علي الصراع بين الأشكال الشعرية عبر التاريخ؛ بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتدل علي جوهر الشعر وكيف يتطور، وكذا علي علاقة الشعراء الشباب بالتجارب التي سبقتهم؛ فإذا سألنا الشاعر عبد المعطي حجازي إذا استمعت إلي نصيحة العقاد وتراجعت عن كتابة القصائد العمودية، فإلي أين كانت ستؤول الشعرية المصرية الآن؟!.. كانت المساهمة المصرية في مشروع الحداثة العربية ستنتهي إلي الأبد، فثورة حجازي وعدم سماعه لنصيحة العقاد كانت موضوعية، ولكن لا يسمح بها للشباب الآن؛ حيث إن الكهنوتية تهمش الفكر الجديد وترفض فكرة الاختلاف وتقوم علي احتكار موقف واحد فقط، وفرضه علي المجتمع، فالحالة الثقافية التي نحياها تأثرت بالوضع السياسي القائم؛ لذا يجب النظر الي جماليات الحاضر. وقال الشاعر الشاب أحمد عبد الجواد: إن الذين يتصدرون المشهد الشعري الآن هم الآلهة أو أنصاف الآلهة سواء عن طريق الإعلام أو الإنترنت أو الندوات وهم الذين يتحدثون ويتصدرون الساحة الثقافية دون الكشف عن هؤلاء أو توجيه النقد لهم. فيما أشار الشاعر الشاب سامح محجوب، إلي أن الفضاء الافتراضي- الإنترنت - تمكن من خلاله بعض الكيانات أن تدعي منصبًا لها سواء كان شاعرًا أو غيره، وتنتشر من خلاله بين الأشخاص وتنشر قصائد لهم، وتطغي المجاملة الزائفة بينهم؛ فالشاعر ليس بتواجده علي الإنترنت ولا بالندوات او بحفلات التوقيعات، بل من وجهة نظري أن الإبداع الحقيقي يسير في اتجاهين؛ الأول: الإبداع الحقيقي الذي يمتلك حداثة طاغية حتي وإن نما في الخفاء، الثاني: هو ركوب الموجة مثل موجة الكتب الساخرة، ولكن عندما يتحدث التاريخ فلن يذكر هؤلاء لأن التناول كان بسطحية شديدة.أما الشاعر عماد الغزالي، فقال: إن اختلاف الشعراء الشباب مع الشعر القديم يحقق الشخصية المستقلة؛ فالمتنبي وأبو نواس إذا ظلوا وفاءً لنموذج القصيدة الجاهلية فلم يستطيعوا صنع قامتهم في القصيدة العربية ولم يصبحوا جزءًا من التراث؛ فالشعراء الشباب دائما في بدايتهم الشعرية يقابلون العديد من المشكلات التي تتلخص في الحرص علي سلامتهم اللغوية، وأن يكون قادرا علي الوعي بالفارق الكبير بين البساطة والاستسهال، وعلي الخصوصية التي تميزه عن غيره؛ فصلاح عبد الصبور وأمل دنقل تستطيع أن تعرف قصائدهما دون قراءة أسمائهم عليها، فهما يضربان علي أوتار معينة تميزهم عن غيرهما، فهذه الخصوصية تنبع أيضا من التحدث عن التجارب الذاتية للشاعر.. محذرًا من الفضاء الإلكتروني الذي يتواجد عليه الشعراء ويبتعدون عن التواصل الأدبي الحقيقي. وأكد الناقد يسري عبدالله أننا الآن في محاولة لتنميط الزائقة الأدبية وفرض تيار شعري معين علي بقية التيارات، وانطلاقا من هذه اللحظة المأزومة يأتي التجديد في مسيرة الشعر العربي ليعيد الاعتبار للقصيدة الشعرية بعد أن وضع البيض كله في سلة واحدة، فمأساة النقد الشعري الراهن، أنه أصبح يري كل الشعراء موهوبين وكل القصائد جيدة، وأصبح النقاد يمثلون دور المبرر للنصوص الضعيفة.. وأضاف: لذا فالتجديد في الشعر العربي يأتي في ظل لحظة سياسية وثقافية مأزومة، فعلاقة ذلك بالشعر من وجهة نظري أن الحياة درب من دروب الشعر، وما هي إلا صياغة جمالية للواقع؛ لذلك أنا أري أن التجديد يأتي في لحظة شعرية مسكونة بالتحولات لأفق الكتابة الرحب وليس للرأي الواحد.. فالشعر ما هو إلا مغامرة كبري وهذه اللحظة هي التي تنقلنا من المرئي إلي اللامرئي، وليس التجديد في القصيدة من ناحية الأوزان والقوافي، ولكن من خلال الرؤية الشعرية وإيجاد وجهة نظر مختلفة تجاه العالم. وأضاف يسري بأن النقد الشعري لدينا شبه غائب علي الرغم من وجود كم هائل؛ فالمؤسسات تؤجر النقاد، أو من وجهة نظري فالنقاد هم من يؤجرون رءوسهم، فالنقد لابد أن يكون رؤية للعالم ويكشف جماليات النص ويعمل علي النفاذ إلي الأعماق.. وكل هذه الأمور ليست حاضرة لدي نقادنا علي عكس الناقد الغربي الذي يحمل رؤية للعالم.