كنتُ فخوراً بمشاركة رئيس مصر في المؤتمر.. ولكن طوال الأيام الثلاثة لقمة العشرين، كان السؤال الذي يلح عليَّ هو: لماذا تقدمت هذه الدول الصديقة، بينما لم نتقدم نحن أيضاً؟! أصارحكم القول، لقد انتابتني بعض مشاعر الأسي والحزن وبعض الغيرة وأنا أتابع عبر الفضائيات فعاليات قمة مجموعة العشرين المنعقدة في مدينة »هانجتشو» الصينية منذ عدة أيام. كنت فخوراً بوجود الرئيس السيسي للمشاركة في القمة بدعوة من الرئيس الصيني، وكنت سعيدا بما أكده الرئيس الصيني الصديق »شي جين بينج» عن تقديره الكبير لمصر وثقلها، ودورها المحوري في المنطقة العربية والشرق أوسطية، وما أعلنه من أن دعوة مصر لحضور المؤتمر والمشاركة في القمة، تعكس قدرها الكبير وصداقتها التاريخية مع الصين، وتأثيرها ودورها الإقليمي. ولكن في إطار المصارحة الواجبة التي عاهدت نفسي عليها، أقول لقد كانت تشوب هذه السعادة وذلك الفخر بعض الأسي وبعض الغيرة، وأنا أري كثيرا من الدول في مجموعة العشرين كانت في ذات الموقع والمكانة مع مصر منذ سنوات قليلة، ولكنها الآن أصبحت أكثر تقدما عن مصر علي جميع المستويات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية،...، كان ذلك بالقطع يثير في نفسي بعضاً من الأسي والحزن علي حالنا،...، كما كان أيضا يثير لديَّ بعضاً من الغيرة،..، ولكنها تلك الغيرة الإيجابية التي تدفع للبحث عن الأسباب وراء ما أصبحوا فيه من مكانة وما نحن فيه الآن، والتنقيب عن الطريق الصحيح الذي سلكوه للوصول إلي ما هم فيه، والأخطاء التي ارتكبناها نحن، والتي أدت إلي إعاقة مسيرتنا وعدم التحرك للأمام. للأمانة كانت هذه هي المشاعر الغالبة عليَّ، والتي كانت تعتمل في صدري، وأنا أتابع باهتمام مجريات الأحداث في القمة الحادية عشرة لمجموعة العشرين المنعقدة في مدينة هانجتشو الصينية منذ عدة أيام. لماذا تقدموا؟ وطوال تلك المتابعة التي استمرت ثلاثة أيام، هي مدة انعقاد القمة، كان السؤال الذي يلح عليَّ هو: لماذا تقدمت هذه الدول الصديقة، ولماذا لم نتقدم نحن أيضا؟!. وكان المثال الصيني والمثال الهندي هما الأقرب بالنسبة لي في مجال المقارنة بمصر، ومن قبلهما الحالة اليابانية ومن بعدهما الحالة الكورية الجنوبية،..، وذلك لأسباب كثيرة منها علي سبيل المثال وليس الحصر أن قمة العشرين عقدت هذه المرة في الصين، ومنها أيضا أن الرئيس السيسي قد استبق مشاركته في القمة بزيارة الهند،...، ولذا فإن كلتيهما الصينوالهند كانتا حاضرتين بقوة في مجال القياس والمقارنة. ولكن الأساس في المقارنة هو أن كلتا الدولتين صديقتان تاريخيتان لمصر، تربط بيننا وبين كل منهما روابط ضاربة في عمق الزمن، ولكلٍ منا نحن الثلاث مصر والصينوالهند حضارة قديمة كانت ولاتزال مؤثرة تأثيراً فعالاً في محيطها الجغرافي وعلي المستوي الإنساني، فالحضارة المصرية القديمة لها ثقل وتاريخ، وكذلك الحضارة الصينية والحضارة الهندية. صداقة متينة هذا عن التاريخ القديم وعن الحضارات الضاربة في عمق التاريخ،..، ولكن في التاريخ الحديث أيضا كان ومازال لمصر روابط قوية وصداقة متينة مع كلتا الدولتين،...، كان لها صداقة وعلاقة خاصة مع الصين، وكنا من أوائل الدول التي اعترفت بدولة الصين الشعبية حال قيامها، كما كانت هناك صداقة متينة بين الزعيم جمال عبدالناصر وقادة وزعماء الصين العظام في هذا الوقت »ماو تسي تونج» و »شوان لاي»، وطوال الخمسينيات والستينيات وما بعدها وحتي الآن، ظلت الصداقة ممتدة بين مصر والصين. وفي الوقت ذاته، ربطت أيضا مصر والهند روابط عميقة ومتينة وصداقة تاريخية، ازدادت تَوثِّقاً وقوة في ظل الصداقة الخاصة التي ربطت بين زعيم الهند جواهر لال نهرو وبين عبدالناصر، والتوافق الكبير في أفكارهما السياسية ومواقفهما علي الساحة الدولية، وهو ما أدي إلي نشوء حركة عدم الانحياز بزعامة ناصر ونهرو وتيتو الزعيم اليوغسلاڤي. وخلال تلك الفترة كان مجمل الأوضاع الاقتصادية متشابها في عمومه في الدول الثلاث مصر والهندوالصين مع اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية في كل منها، وكانت الدول الثلاث تعاني نفس المشاكل الجهل والفقر والمرض المنتشرة بين عموم الشعب في مصر والهندوالصين أيضا، وكانت الدول الثلاث تتطلع لمستقبل أفضل وتسعي لاحتلال المكانة اللائقة بها علي المستويين الإقليمي والدولي،..، كما كانت تجمع بينها أيضا التوجهات السياسية الخاصة بدعم حركات التحرر ومقاومة الاستعمار. والقصد من وراء هذا السرد، هو أن أقول بوضوح، إن حركة النهضة الشاملة في الصينوالهند ومصر، بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت الدول الثلاث علي نفس الخط وفي نفس الخندق وعلي ذات المستوي الاقتصادي والعلمي تقريبا، وكانت أيضا تعاني من ذات المشاكل »الجهل والفقر والمرض» وتتطلع وتسعي لنفس الأهداف، وهي النهوض والتقدم والحداثة،...، وهو ما حدث في الصينوالهند الآن بينما لم يحدث في مصر. اليابان وكوريا وفي ذات السياق ، كانت لنا مع اليابان قصة ذات دِلالة، سبقت هذه القصة ببضع عشرات من السنين، حيث كانت القاهرة مزدهرة وجاذبة لأنظار العالم من حيث النظافة والتنسيق والنظام والروعة العمرانية، وكانت تضاهي في روعتها وجمالها ونظافتها عواصم ومدن العالم المتقدم، ولا تقل في مستواها عن باريس ولندن وغيرهما. في ذلك الوقت، جاءت إلي مصر بعثة يابانية خاصة، مهمتها الاطلاع والمشاهدة والتعرف علي الكيفية والأسباب التي جعلت العاصمة المصرية علي هذا القدر من الروعة، والاستفادة من ذلك للعمل به ونقله إلي المدن اليابانية. في ذلك الوقت من بدايات القرن الماضي، كانت اليابان تتطلع حولها وتسعي للنهوض والتقدم، كانت تري أن في مصر ما يمكن الاستفادة به في سعيها هذا،...، وأحسبُ أنني لا أحتاج إلي القول بأن اليابان قد استمرت في سعيها ومسيرتها ونهضت بالفعل، وأصبحت الآن قوة متقدمة، بل بالغة التقدم، بينما تراجعنا نحن وتراجعت معنا القاهرة تراجعاً ليس بالقليل،...، وآسَفُ إذا كان ذلك مُحبِطاً ومثيرا للأسي. وإذا كانت القصة مع اليابان سبقت قصتنا مع الصينوالهند ببضع عشرات من السنين، فهناك قصة أخري تلت هذه القصص كلها، وهي قصتنا مع كوريا الجنوبية، التي مازالت قريبة في عمر الزمن، حيث كانت حتي نهاية السبعينيات من القرن الماضي في مصاف الدول الأكثر بُعداً عن الحداثة والتطور والتقدم،..، ولكنها أصرت علي أن تغيِّرَ هذه الأوضاع، وأن تنهض وتتقدم، وقد فعلت ذلك وأصبحت علي ما هي عليه الآن من حداثة وتطور وقوة اقتصادية،..، وبقينا نحن علي حالنا دون تقدم ودون حداثة وفي وضع اقتصادي سيئ ومأزوم. الأسباب والدواعي والآن.. تعرفون الأسباب والدواعي التي دفعت بي للشعور بالأسي والحزن وبعض الغيرة، خلال متابعتي لفعاليات قمة مجموعة العشرين التي عقدت في مدينة »هانجتشو» الصينية،..، وذلك نظراً لتداعي هذه الأفكار وتلك الوقائع عليَّ، وأنا أري دولاً كثيرة صديقة لها ولشعوبها عندنا ود وصداقة ومحبة وتقدير أيضا، كانت يوما ما في الماضي القريب معنا في نفس الموقع الاقتصادي والعلمي والحداثي،..، ولكنها تقدمت بينما بقينا نحن في ذات الموقع الذي كنا فيه، بل ربما تراجعنا عنه. لقد كان ومازال »الأسي» عائداً علي حالنا، وكانت ومازالت الغيرة عائدة إلي تطلعي وأملي في أن نحقق ما حققوه، بل وأكثر، وأن نصل إلي ما وصلوا إليه، بل أبعد،..، حيث إنني أري أن ذلك ممكن وميسور، بل يجب أن يكون كذلك، ويجب أن نعمل من أجل هذا بكل ما أوتينا من قوة ومن جَهد ومن إصرار. وفي إطار المصارحة مع النفس ومعكم، دعوني أقل إنني أري وأؤمن بأن السبب المؤكد والبسيط فيما وصلوا إليه، هو العمل والجهد والإصرار، وأن السبب في بقائنا علي ما نحن عليه، هو أننا لم نعمل بالقدر الكافي ولم نبذل الجهد الكافي، ولم يكن لدينا الإصرار الكافي علي النهوض والتقدم والحداثة،..، كانت تلك ومازالت هي بواعث الأسي وأسباب الغيرة. ليست صدفة وطالما أننا نتصارح، دعوني أقل بكل الصراحة الواجبة، إننا في حاجة ماسة إلي الإدراك الواعي للحقيقة الواضحة وضوح الشمس، التي تؤكد لنا أنه لا مكان للصدفة أو الحظ الحسن في قضايا التقدم والنهضة والحداثة،..، ويخطئ من يظن ولو للحظة واحدة أن الصدفة هي صانعة النجاح، أو أن الحظ هو صانع التقدم بالنسبة للدول علي خريطة العالم، بل وأيضاً علي أي مستوي من المستويات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها. وأقول لكم أيضاً، إنه إذا كان جائزاً في بعض الأحيان أن تلعب الصدفة أو يلعب الحظ دوراً لافتاً ومؤثراً في حياة بعض الأفراد،..، فإن ذلك يبقي دائماً وأبداً حدثاً مفرداً في ذاته، مقصوراً علي حدود الشخص، غير قابل للتعميم علي المجموع أو الكل،..، ويجب أن ننظر إليه دائما علي أنه استثناء لا يُخل بالقاعدة. ولمن لا يعلمون أو يتجاهلون ويَدَّعون عدم علمهم، نقول إن القاعدة التي نعرفها جميعاً، والتي يعرفها العالم كله، والتي أدركها جموع البشر علي مر التاريخ وحتي الآن، تؤكد بوضوح أن العمل هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق أي طموح علي المستوي الشخصي أو العام،...، وأنه الطريق الصحيح والوحيد لتقدم الدول والشعوب،..، وهو الأداة المتاحة أمام الجميع للانتقال بالأفراد والمجتمعات والدول من دائرة التخلف أو الفقر، إلي دوائر النمو والتطور والحداثة. ولذلك، فإن العمل الجاد والمكثف هو قاعدة الانطلاق المعمول بها في كل الدنيا، ولدي كل الدول والشعوب التي تريد الانتقال من واقعها السيئ، إلي واقع أفضل علي مستوي العالم،...، وهو الوسيلة المتعارف عليها والموثوق بها لتحقيق التطور والتحديث واللحاق بركب الدول والمجتمعات المتقدمة. تلك حقائق ثابتة في يقين العالم أجمع،..، وآن الأوان أن تترسَّخ في وجداننا نحن، إذا أردنا الارتقاء بهذا الوطن، والخروج من عنق الزجاجة، والانتقال به من دائرة الدول النامية إلي دائرة الدول الأكثر نمواً والناهضة،..، ومن بعدها إلي مصاف الدول المتقدمة. العمل والجهد وإذا ما أردنا دليلاً حياً علي هذا الذي نقوله،..، علينا أن ننظر بالتدقيق إلي مجموعة الدول الناهضة والآخذة في الانطلاق بسرعة وكثافة نحو التقدم، التي حققت بالفعل معدلات واضحة ومرتفعة من النمو المستمر والمتراكم خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية، مما أهلها للانتقال من مصاف الدول النامية إلي الدول ذات الاقتصاديات الناهضة، وهو ما جعلها مؤهلة للانضمام إلي الدول المتقدمة ذات الثقل والوزن الاقتصادي. وإذا ما فعلنا ذلك ودققنا فيما حدث في تلك الدول، سواء في الصين أو الهند أو كوريا أو اليابان من قبلها، وكذلك في البرازيل والمكسيك من بعدها، لوجدنا أن السر وراء تلك الطفرة الكبيرة وذلك التحول الإيجابي الملموس والواضح، يكمن في الإيمان بقيمة العمل، والانطلاق بقوة علي طريق الإصلاح الاقتصادي الجاد، والاقتناع التام بأن العمل والجهد والإصرار، هي الوسائل الصحيحة والطريق الوحيد لتحقيق الهدف. ما يجب أن نعرفه ونؤمن به، هو أن هذه الدول وجدت أن العمل الجاد والمنظم والكفء، هو الوسيلة وهو الطريق لتحقيق ما تريده وما تتطلع إليه،...، لذلك جعلت من العمل فريضة مقدسة لدي كل مواطن وكل فرد صيني أو هندي أو ياباني أو كوري،...، بحيث أصبح العمل الجاد والسعي للإجادة واكتساب المهارة والخبرة والكفاءة في العمل والإنتاج، من الأسس والقواعد الرئيسية لاحترام الفرد وتقديره، باعتباره يسعي بجدية وصدق للارتقاء بنفسه وبوطنه. طريق واحد وفي هذه القضية بالتحديد، احسب أن الوقت قد حان الآن كي ندرك بوضوح لا لبس فيه، انه لا توجد دولة في العالم، أو مجتمع من المجتمعات علي هذه الأرض، يريد التقدم ويسعي للتطور دون أن يعمل لتحقيق ذلك بكل الجدية وكل العرق وكل الاصرار،...، وعلينا أن ندرك في ذات الوقت انه لا يوجد أمامنا غير طريق واحد للتقدم والتطور والحداثة، وهو العمل الجاد والمكثف والمتواصل. ولابد أن يتواكب مع ذلك ويسير معه في نفس الوقت، ايمان راسخ لدينا جميعا بأننا صناع المستقبل لهذا الوطن، وانه لا تقدم ولا رخاء دون جهد حقيقي ورغبة صادقة واصرار علي تحقيق ما نسعي إليه. وعلينا أن ندرك بأن مصر لن تتقدم ولن تتطور إلا بأيدينا نحن،...، وان طريق تحقيق الطموحات والآمال مفتوح علي مصراعيه لمن يعمل ويخلص في العمل،...، فإذا اردنا أن نصل إلي ما وصلت إليه الصينوالهند وكوريا واليابان وغيرهم من الدول الناهضة والمتقدمة فعلينا بالعمل الجاد والمخلص والمزيد من العمل بكل الجدية والاخلاص. والآن.. هذا هو ما فعلته هذه الدول الصديقة وما قامت به شعوبها لتحقيق آمالها والانتقال من دائرة الدول النامية إلي دائرة الدول الناهضة والمتقدمة،..، فهل نفعل نحن ذلك أيضا.؟! أحسَبُ أن الإجابة يجب أن تكون.. نعم سنفعل.