استمتعت الخميس الماضي بقضاء سهرة ثقافية رائعة في الصالون الثقافي الذي يدعو إليه شهريا الدكتور أحمد جمال الدين وزير التعليم والتعليم العالي الأسبق ورئيس جامعة المنصورة الأسبق. وكان موضوع اللقاء.. مناقشة الرواية الثالثة للدكتور جمال الدين وهي بعنوان "ملك التنشين".. وقد سبق أن قدم للمكتبة العربية روايتين "لقاء في واحة الحنين" و"فتاة هايدلبرج الأمريكية". وكانت رواية "لقاء في واحة الحنين" بداية تعرفي علي جمال الدين وانني أمام أديب يملك أدواته ويغوص في أعماق المجتمع.. ويعبر عن قضاياه بأسلوب جذاب وممتع لا يقدر عليه سوي أصحاب الأقدام الراسخة في هذا المجال. وقد حرصت وقتها علي حضور الندوة التي ناقشت الرواية رغم بعد المسافات تعبيرا عن سعادتي بهذا العمل الرائع الذي أعاد إليّ الأمل في أن مسيرة الإبداع لم تتوقف برحيل المبدعين الأوائل.. وأن مصر الولادة قادرة علي أن تقدم مبدعين جددا يكملون مسيرة الأوائل. وكانت المفاجأة ان هذا المبدع ليس محترفا لكتابه الأدب. إنما لديه مشاغل عديدة سواء كرجل دولة تولي الوزارة أكثر من مرة واستاذ جامعي تولي إدارة واحدة من أهم الجامعات المصرية.. وهي جامعة المنصورة كما يشارك في العديد من المؤتمرات القانونية العالمية. ولديه أبحاث عديدة في مجال تخصصه.. ولكن تلك المشاغل العديدة لم تحل دون تقديمه تلك الأعمال الابداعية التي حظيت بتقدير النقاد.. والمتلقين. وعندما بدأ المؤلف في نشر روايته الجديدة "ملك التنشين" عبر الفيس لم أتمكن من متابعة الحلقات فلست محسوبا علي قبيلة "الفيس" وحتي بعد أن استكملت الحلقات وتفضل المؤلف بالاستجابة لمن يريد الحصول علي الرواية كاملة عبر "الفيس".. ليتمكن من المشاركة في الحوار لم أحصل علي نسخة ولكني حرصت علي متابعة ما أثير حول الرواية من آراء متباينة طول فترة إذاعة الحلقات ثم حضور اللقاء رغم وعكة صحية فرضت عليّ البقاء في المنزل أكثر من شهر. وسعدت بالاستماع إلي آراء النقاد الذين شاركوا في الحوار وكانت سعادتي أكبر بمشاركة أعضاء الصالون الذين أثبتوا قدرات فائقة في قراءة النص ونقده وأدار الحوار باحترافية اعتدنا عليها الدكتور عمرو سرحان عميد طب المنصورة الأسبق ومن النقاد الدكاترة والأساتذة محمود الضبع وأسامة عرابي وأسامة الرحيمي وأيمن الشيوي والفنان حسن زكي وشوكت المصري ومجدي العفيفي والشاعر جمال الشاعر. وتتناول رواية "ملك التنشين" رحلة شاب مصري متفوق وطموح أراد تجاوز واقعه مستغلا المناطق الرمادية التي تغلف حياتنا الاجتماعية ليختصر الطريق نحو الثروة والمجد ولكنه يسقط وينتهي نهاية مأساوية. ويرصد المؤلف من خلال تلك الرحلة ما جري في المجتمع المصري من تغيرات خلال العقود الماضية.. بأسلوب جذاب.. وتناول موضوعي لمثقف يعي قضايا وطنه.. وليس منفصلا عنها.. ساعده في تلك الرؤية خبراته الطويلة التي أشرنا إليها وأمدته بزاد لا يغني من الأحداث التي استفاد بها في رواياته.. خاصة "ملك التنشين". ومع كل التقدير للآراء النقدية التي عبر عنها هؤلاء النقاد الكبار. توقفت أمام بعض مشاركات أعضاء الصالون من عنبر المتخصصين في النقد ومنهم الدكتور محمد رشدي إبراهيم الأستاذ بكلية الحقوق جامعة جنوب الوادي. قدم رؤية مختلفة ل"ملك التنشين".. وانه قد يكون ممثلا لحالة الكثيرين في المجتمع فهو ليس حالة فردية.. وانما هو عبارة عن حالة مجتمعية عامة. وقد يفهم البعض منه المعني الايجابي بأنه ذاكر جيدا.. حتي وصل لمرحلة انه حدد نقاط الامتحان ولكني أري من وجهة نظري بأن "ملك التنشين" في الغالب خادم لغيره وموصل له أكثر من نفسه فهو ينشن فعلا علي الأسئلة المهمة.. ولكنه في النهاية لا يركز عليها هي فقط وإنما يذاكر الكتاب كله خوفا من المغامرة غير المحسوبة ومعروف ان مذاكرة الكتابة كله ستضيع كثيرا من التركيز علي المهم اما المستفيد الحقيقي فهو الشخص الذي حصل علي الأسئلة من "ملك التنشين" ليلة الامتحان وذاكرها هي فقط وركز وغامر بالدخول لها هي فقط وحصل علي التقدير المرتفع. ويختتم الدكتور رشدي رؤيته النقدية بأن لغة الرواية جميلة جدا تتصف بالعذوبة والسهولة وفيها وصف إبداعي متميز مما يسهل معه إنتاجه في صوره متلفزة. وأخيرا هناك امساك بزمام الرواية من كاتبها علي كل مفاتيح شخصياتها. رؤية أخري قدمها عضو الصالون الخبير القانوني أحمد عبدالحفيظ الذي يعتبر رواية "ملك التنشين" هي الأقوي والأكثر ثراء من الروايتين السابقتين للمؤلف واعتقدت ان المؤلف يقدم في شخص غريب "بطل الرواية" صورة من صور فشل وسقوط طموحات النابغين من أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا علي نحو ما تجسد في أعمال نجيب محفوظ.. وبالذات "بداية ونهاية" و"القاهرة الجديدة" ومع تطور الأحداث توصلت إلي ان الرواية تجسد صورة أخري. أكثر خصوصية واختلافا عن روايات السابقين التي تتشابه معها فقط في تجسيد الصورة شديدة الانتهازية والأنانية التي تذهب في النهاية بجميع المزايا التي تمتع بها هؤلاء الأبطال. *** الجانب الثاني في عنوان الندوة يتعلق "بالرواية العربية" التي تعاني أزمات حقيقية لأسباب عديدة في مقدمتها ان القراءة في مجتمعنا لم تعد تحظي بالمكانة السابقة علي قائمة اهتمامات المواطنين.. وكان لذلك انعكاساته علي حركة الإبداع وحتي الصحف اليومية التي كان يحرص الناس علي مطالعتها تعاني من ضعف التوزيع.. حتي أصبح استمرار صدورها أمرا مشكوكا فيه. وإذا عدنا للرواية التي انحسر عنها القراء بما لا يشجع الناشر علي الاقدام علي مغامرة نشر أعمال أدبية قد لا تحقق له الأرباح المناسبة ويفضل اختيار موضوعات معينة مثل الجاسوسية والجنس والرياضة وغيرها من الأمور التي أصبحت تجذب قطاعا واسعا من القراء خاصة الذين لم يحصلوا علي القدر المناسب من التعليم أو الثقافة. ومن الطبيعي ألا يجد النقاد الجادون فرصا مناسبة في ظل هذا المناخ الطارد للإبداع بينا تعجز ميزانية وزارة الثقافة عن دعم الإبداع والمبدعين. كل تلك العوامل تؤدي إلي احباط المبدعين الذين لا يجدون التشجيع المناسب.. ويقررون الانسحاب وبدلا من أن يكون السؤال.. لماذا ينسحبون؟. أصبح مجرد الاستمرار في ظل هذا المناخ المحبط يحتاج تفسيرا. وعندما سئل الدكتور أحمد جمال الدين عن سر حرصه علي الانشغال بالكتابة الأدبية وسط انشغالاته العديدة. أجاب انه الشغف بمتعة الإبداع بمعني خلق شيء جديد من العدم وهذه المتعة الحقيقية لا تكتسب إلا بمشاركة الآخرين فماذا يعني إبداعك إذا بقي حبيس الأدراج؟. وما كان بمقدوره ان يستمر في الإبداع لولا تشجيع السيدة الفاضلة المستشارة أماني البغدادي. يجدر الاشارة إلي ان صالون جمال الدين الثقافي يضم نخبة من الوزراء والمسئولين والمثقفين وأساتذة الجامعات والخبراء في مجال العمل العام. وقد تناول في لقاءاته السابقة موضوعات عديدة خاصة بالتعليم والبحث العلمي والصحة والإعلام والتغييرات المناخية وسلوك المصريين والثروة الرقمية وسلامة المواطنين في وسائل النقل وإعلاء دولة القانون والحفاظ علي حقوق مصر في نهر النيل وكيفية تفكيك الفكر الإرهابي والمشكلة السكانية.. وغيرها من القضايا الجماهيرية. ولا شك ان مثل تلك الأنشطة المدنية تحتاج إلي من يلقي الضوء عليها لما لها من تأثير ايجابي علي الرأي العام.