كأنه يعيش بيننا. ويعرف أحوالنا. ويتابع أخبارنا. عاش في مصر زمناً قليلاً. لكنه نجح في تشخيص علتنا. وتلخيص قضيتنا. تحدث أبوالطيب المتنبي في قصيدته المشهورة عن قربة مصر المقطوعة. وثرواتها الضائعة التي سرقها اللصوص والثعالب. انتشروا في كل القطاعات. وسرقوا الملايين والمليارات. والكنوز والمجوهرات. والقصور والفيلات. والأراضي والعقارات. ولم يتركوا للأغلبية الساحقة من هذا الشعب الصابر المحتسب إلا الفتات. نشروا الفساد والاستبداد وظلموا العباد. واستولوا علي كل شيء. ولم يتركوا لغيرهم أي شيء. الغريب أن ثعالب مصر سرقت حقوق هذا الشعب في وضح النهار وبجرأة يحسدون عليها. بعد أن ماتت ضمائرهم. وأصيبت أطماعهم بالحمي والسعار. تحدث المتنبي في قصيدته "الدالية" نسبة إلي قافيتها. عن أمور تخصه. لكنه لم ينس الإشارة إلي علة هذا البلد التي استمرت علي مر التاريخ. ونزيف الثروات الذي استمر لآلاف السنين سواء علي أيدي المستثمرين والغاصبين من الخارج. أو الطامعين والجشعين من الداخل. جاء عليه العيد في ظروف قاسية. وتمني ألا يأتي عليه وهو في غربته. ولم يعطه كافور الإخشيدي والي مصر ما طلبه بأن يكون أميراً علي الفيوم. فقال هذه القصيدة في هجاء كافور الذي كان مدرساً لأبناء محمد بن طفج الإخشيدي. مؤسس الدولة الإخشيدية.. وأصبح وصياً علي أبنائه بعد وفاته لإخلاصه وأمانته. وأصبح والياً علي مصر. وحمل لقب الأستاذ خلال فترة حكمه. مدحه المتنبي في أول الأمر وبالغ في المديح. ثم هجاه بعد ذلك وبالغ في الهجاء. قال المتنبي في البيت الذي يصور مشكلة مصر المزمنة: نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن ولا تغني العناقيد أي أن حراس مصر غفلوا عن ثعالبها. فصالت وجالت. وسلبت ونهبت. وتركوا الشرفاء والمجتهدين والموحدين جوعي ومشردين. علي الأرصفة أو في الزنازين أو في قوائم المهمشين. ورغم نزيف الثروات استمرت الأرض الطيبة في العطاء. لكن خيراتها تذهب إلي جيوب الظالمين والفاسدين. واستمرت هذه الآفة علة أزلية تصيب الوطن المصري وتعطل حركته ومسيرته. الثعالب تنعم بالمال الحرام. وأغلبية هذا الشعب تبحث عن رغيف الخبز فلا تجده. أو الدواء فتفتقده. وعن وسيلة المواصلات للعمل أو الدراسة. فلا تصل إليها. وعن باقي ضروريات الحياة اليومية. فلا يحصلون عليها. مهما تعاقبت الأيام ودارت الأعوام لا يجد المواطن مسكناً لأسرته في حياته. ولا قبراً يضم رفاته بعد وفاته.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. لعنة الله علي كل من سلب أو نهب شيئاً من أموال هذا الوطن. تطارده في دنياه. وتنذره بسوء العذاب في أخراه.