لم يعرف العرب أشعر من أبي الطيب المتنبي ولا أكثر منه شجاعة.. ولا أجل منه حكمة واعتزازا بذاته.. فقد عاش المتنبي في زمن كانت فيه الدولة العباسية تلفظ أنفاسها الأخيرة وشهد تفككها وانهيارها فقد ولد عام 303 هجرية حيث شهدت تلك الفترة التي نشأ فيها أبوالطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت علي أنقاضها بعد سقوط دولة بني أمية.. وعلي الرغم من أنها كانت فترة نضج حضاري.. إلا أنها شهدت عصرا مترديا من التصدع السياسي والتوتر والصراعات التي عاشها العرب والمسلمون.. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها.. والسلطان الفعلي أصبح في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب.. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام.. وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر علي السلطة في كل مكان.. ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم المتكررة علي الكوفة.. وكان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع.. فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني أنه قد اتفق وإياهم علي إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف علي ذلك المجلس.. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلي غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته.. وفي هذا العالم المضطرب كان المتنبي قد عاش أفضل أيام حياته واكثرها عطاء في بلاط «سيف الدولة الحمداني» في حلب.. وكان المتنبي أعظم شعراء العرب.. وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية.. إذ كان أعجوبة عصره وعلامة زمانه.. وبقدر نبوغ المتنبي وتألقه الرائع.. بقدر اعتزازه بنفسه وسموه وترفعه.. وهذا ما أغضب منه «سيف الدولة» إذ كان يكثر من امتداح نفسه في قصائده التي كان يكتبها لسيف الدولة .. لذلك ترك المتنبي حلب قاصدا مصر ونكاية في سيف الدولة مدح حاكم مصر وكان أيامها «كافور الإخشيدي» وكان يدرك المتنبي مسبقًا أنه حاكم ظالم ولن ينصفه أبدًا.. فلم تطل إقامته عنده في مصر.. وفي أيام تشبه كثيرا لهذه الأيام التي نعيشها الآن من تفكك عربي وتشرزم سياسي.. وتهافت علي السلطة والمناصب من صبية السياسيين الجدد.. غادر المتنبي مصر متوجها إلي جبل عرفات.. وقد عقد العزم علي أن يقضي العيد في «مكة» ليؤدي فريضة الحج.. فكتب يقول هاجيا كافور.. وناعيا حظ مصر العاثر وشعبها المسكين الذي أكلت ثعالب الفساد عناقيد عنبها الحلو وقد غفل نواطيرها (حراسها) عن حمايته فكتب المتنبي ما رأيت أننا نعيشه الآن.. ف«الحر مستعبد والعبد معبود».. «فما كنت أحسبني أحيي إلي زمن يسيء بي فيه عبد وهو محمود».. فقال أبوالطيب لا فض فوه: عيد بأية حال عدت ياعيد بما مضي أم لأمر فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيد يا ساقيي أخمر في كؤوسكما أم في كؤوسكما هم وتسهيد أصخرة أنا ما لي لا تحرني هذي المدام ولا هذي الأغاريد ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني بما أنا شاك منه محسود إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القري وعن الترحال محدود أكلما اغتال عبد السوء سيده أو خانه فله في مصر تمهيد صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفني العناقيد العبد ليس لحر صالح بأخ لو أنه في ثياب الحر مولود لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس ماكيد ماكنت أحسبني أحيا إلي زمن يسيء بي فيه عبد وهو محمود جوعان أكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود من علم الأسود المخصي مكرمة أقومه البيض أم آباؤه الصيد أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود