لم يأخذ (أبو المسك كافور الأخشيدي) الحاكم المصري شهرته الواسعة في التاريخ إلا لهجاء (أبو الطيب المتنبي) فيه, فقال أبياته الشهيرة: نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. فقد بسمن وما تفني العناقيد, صار الخصي إمام الآبقين. بها فالحر مستعبد والعبد معبود, لا تشتري العبد إلا والعصا معه, إن العبيد لأنجاس مناكيد! أبيات بقدر ما تحمل من جمال شعري, تحمل مضمونا قبيحا لعنصرية بغيضة, وأيضا ظلما بينا لحكمة (كافور), إبان فترة حكمه لمصر, في تلك الفترة المضطربة, فحافظ علي استقرارها, وتوسع في الشام, ليحكم مصر والشام لأكثر من 20 عاما, بنظام متوازن يحافظ علي علاقات ودية مع القوي المنافسة, مثل الدولة العباسية والدولة الفاطمية, وحظي بشعبية بين عامة المصريين لعدله واعتداله, وأيضا بين الأدباء والشعراء والعلماء, الذين حرص علي قربهم. والاستفادة من ملكاتهم, خاصة أنه كان ذكيا متعلما حتي لقب بالأستاذ! ظلم (المتنبي) الأستاذ الحاكم بما قاله عنه, رغم إنه لم يصل للحكم إلا لقدراته ومواهبه الفذة في الزعامة, التي اعتمدت علي القدرات المكتسبة, بأكثر مما اعتمد علي المهارة البدنية أو الشكلية, بل كان شكله دميما منفرا, مشوه القدمين, مثقوب الشفة, لا أسمر وسيم مثل (أوباما) علي سبيل المثال! فلا نستطيع تاريخيا تحديد إن كان زعيما طيبا أم شريرا, ولكنه في جميع الأحوال كان زعيما ناجحا قويا, حظي بالاحترام داخل بلده, وبالهيبة خارجها, وهو ما اعترف به( المتنبي) نفسه بعد وفاة( كافور), فقال عند قبره: ما بال قبرك يا كافور منفردا بالصحصح المرت بعد العسكر اللجب, يدوس قبرك أحاد الرجال وقد كانت أسود الشري تخشاك في الكتب! العقل الشعري قادر علي إيجاد زعيم طيب أو زعيم شرير لنفس الشخص بينما العقل المجرد يدرك أنه ليس هناك هذا ولا ذاك, ولكن هناك زعيما عاقلا استحق مكانة الزعامة بناء علي سلطان العقل. فالزعامة الشكلية بدون إنجاز قد تستمر قليلا, اعتمادا علي الكلام المنمق, والأفكار الشعرية اللذيذة, والطموحات البراقة, إلا أنها تسقط سريعا في عيون الناس, التي لا ترحم, فقالوا علي المستوي الشعبي كتر الكلام خيبة ويقل القيمة!. القيمة الحقيقية في الزعيم قدرته علي إدارة إمكانيات شعبه وبلده المتاحة, للتقدم خطوة إلي الأمام, يعقبها خطوات تلو خطوات, وعندما يتوقف الإنجاز خير للزعيم أن ينحي نفسه جانبا, قبل أن يقع تحت طائلة الطغيان الشعبي, الذي لا يكف عن طلب الإنجاز, حتي يوجد زعيم آخر يقوده لما يريد, ليبدأ الكرة مرة أخري, وتبقي القدرة علي رسم طريق الإنجاز والتقدم هي معيار تقييم الزعيم, لا الطيبة أو الشر, اللذين يحملان دائما وجهة نظر شعرية لا عقلانية! قد يهييء الحظ وضرباته المفاجئة لشخص أن يكون حاكما, ولكنه لا يمكن أن يمكنه من الزعامة, ولايستمر في الحكم, إلا بناء علي قدرته واقتداره, وهو ما حدث مع( كافور), حيث مكنه الحظ أن يقع في طريق (محمد بن طغج) حاكم مصر, فيقتنع بذكائه وعلمه, ويعينه معلما لأولاده, ثم قائدا عسكريا, ليموت الحاكم وأولاده صغار, فيتولي كافور الوصاية علي الحكم, ثم يؤول إليه تماما, ويمد في عمر الدولة الإخشيدية بفضل وعيه العقلاني بالمتطلبات الداخلية والتوازنات الدولية! أما (المتنبي) فوقع في حبائل خياله الشعري, الذي كان يبيعه للأمراء والسلاطين, ولم يستطع أن يفر من عقله الشعري المكبل, فعندما هاجمه( فاتك بن أبي جهل الأسدي), وهو في الطريق, لينتقم منه لهجائه قبيلته, أراد أن ينجو (المتنبي) بنفسه, من عدو لا قبل له به, فقال له ابنه (محسد) ألست أنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم! فخجل من نفسه, ولم يهرب, ففتك به (فاتك), هو وابنه وخادمه, لكنه قال لابنه قبل أن يموت: قتلتني قتلك الله! المزيد من مقالات وفاء محمود