بعد ثورة25 يناير, أصبح الحديث عن الفساد يجري علي قدم وساق, ويملأ سماء الوطن من أقصاه إلي أقصاه, العناوين كثيرة, والتفاصيل مملة, الدهشة تعلو الشفاه, والذهول يحيط بالجميع, أما الأرقام فقد تجاوزت الخيال, فصرخت الدهشة في العيون, وأصبح الناس يضربون كفا بكف, فمن أين كل هذه المليارات وهي تقبع في أيدي حقبة قليلة من الأشخاص, بينما جموع الشعب يلعبون بالملاليم في سوق الفاقة والحرمان, الفقر مدقع, والحياة بائسة, والمستقبل غريق في دماء المجهول. ولن نزيد في الحقيقة شيئا إذا قلنا إن الفساد بأغصانه الشوكية, وفروعه السوداء, موجود في كل زمان ومكان منذ بدء الخليقة, ولكنه موجود في الأمور الطبيعية بنسبة لا تشكل خطورة علي اقتصاد الوطن, ولا تنشيء أسبابا يشكو منها المواطنون سواء في الملبس أو الصحة أو المسكن وغير ذلك من أمور الحياة, لكن إذا زاد الفساد عن نسبته المعقولة, فهنا مكمن الخطر, ومبعث القلق, والخوف من المجهول, إن خطورة الفساد عندما يصبح هو القاعدة والطهارة هي الاستثناء, وفي حق كهذا يختل ميزان العدل, الوطن, وتتهدم جدران البلاد, ويتحطم المستقبل علي قارعة الطريق.ومن غير المقبول في بلد مثل مصر, فقير في الموارد, أن تتركز الأحوال في يد حفنة قليلة من المسئولين ومن يدورون في فلكهم, هناك ناهبو بنوك, وهناك من اشتري الأرضي الشاسعة بثمن بخس ثم باعها بعد حين بأسعار باهظة, هذا علي سبيل المثال لا الحصر, يقابل هؤلاء أغلبية كاسحة, تعاني الفقر المدقع, وأصبحت المسألة في مصر أن الثري يزداد ثراء, والفقير يزداد فقرا, وعلي المرء أن يقول بعد هذا, إن من يسكن في المستنقعات ليس كمن يسكن في المنتجعات! ومن أشهر محطات الفساد في تاريخ مصر محطة كافور الإخشيدي ذلك العبد النوبي الخصي, الذي جلس علي عرش مصر, في واحدة تعبر عن عجائب التاريخ المدهشة, وترجع شهرة كافور الإخشيدي ليس إلي إمكانات عبقرية لم تكن في سواه من الحكام الذين تعاقبوا علي حكم مصر وربما كانوا أفضل منه حالا, ولكنها ترجع إلي المدح والهجاء, وهذا الشعر العظيم الذي قاله شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي في كافور الإخشيدي الذي كان علي استعداد لمزيد من الهجاء لكي يزداد شهرة علي شهرة, فالقائل هو المتنبي الذي يقول عن نفسه: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا ويحسب للشاعر المتنبي وللسلطان كافور الإخشيدي, أن الأول هجا الثاني, دون خوف من خطر يقع عليه, أو من عقاب يتعرض له, والثاني هو السلطان, استمع إلي هجاء الشاعر فيه برباطة جأش, وصبر جميل, ولم يتخذ ضده من الإجراءات ما يجعله نزيل السجون مثلا, ولعل هذا هو دور المثقف الحقيقي وكأن المتنبي حين تحدث عن الفساد في هجائه لكافور, كان يتحدث عن الفساد في هذه الأيام, والبيت الذي كتبه المتنبي منذ أكثر من ألف عام, كأنه قد قاله اليوم وهو: نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تغني العناقير والمقصود بالنواطير في الدولة هم المسئولون, الذين غضوا الطرف عن الثعالب, والمقصود بهم رموز الفساد الذين نهبوا أموال البنوك واشتروا الأراضي الشاسعة بأرخص الأثمان, ثم باعوها بعد حين بأثمان باهظة فكثرت المليارات في أيديهم, بينما شحت الملاليم في أيدي الفقراء, لقد كان هذا الفساد في العقود الأخيرة شرسا, ظالما, كاسحا, عبوسا, ناقما, عنيدا, فاجرا, سافرا, وافرا, إنه فساد لا يعرف للأخلاق سبيلا, ولا يدرك للعدالة دربا, الدولار هو معشوقه الأول, إذا رآه شبع, وإذا لمسه اطمأن, وعلي المرء أن يقول باطمئنان شديد, إنه إذا كان الفساد أيام كافور قد حصل علي درجة مقبول, فإن الفساد في العقود الأخيرة قد حصل علي درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولي!.. ولكن من هو كافور الإخشيدي هذا؟ إنه كافور بن عبدالله, أبو المسك, ولقبه الأستاذ, اشتراه حاكم مصر آنذاك أبو بكر محمد بن طغج الإخشيدي بثمانية عشر دينارا, وكان كافور مخلصا للحاكم وولديه اللذين توفيا بعد والدهما, فأصبح كافور حاكما لمصر, جالسا علي عرشها, كان شجاعا وذكيا, جيد السيرة, فطنا, حسن السياسة, يهفو إلي العدل, ويطمح إلي العلا, وكأنه حاكم مخلص حاول أن يقضي علي الفساد, لكن الحاشية وأصحاب النفوس الضعيفة, والطامحين إلي المال بأي وسيلة, كانوا يحاولون ما وسعهم الجهد أن يمتصوا خير مصر دون وجه حق, لكن مع هذا كان الخير في مصر يولد من جديد مع كل صباح, بأزهاره وأغصانه وبساتينه, ولم يكن كافور يجلس علي تل من الأموال, والفارق بين زمانه وزماننا أن الفساد في عهده لم يكن يؤثر كثيرا علي الطبقات الشعبية, أما في زماننا فقد اكتوت هذه الطبقات الشعبية, ومن هي في قاع المجتمع بالظلم والفقر وارتفاع الأسعار إلي غير ذلك, إنه شيء فظيع في زماننا أن يكون هناك حاكم ملياردير لشعب فقير, فوظيفة الحاكم هي أن يرتقي بشعبه علي كل المستويات, في الأجور, والإسكان, والغذاء, والصحة, والتعليم, علي سبيل المثال لا الحصر, هذه هي مسئوليات الحاكم تجاه الشعب, فإذا لم يقم بواجبه, وينهض بمسئولياته, فلماذا إذن يحكم شعبا.