أراد مشركو مكة ومن تحالف معهم من قبائل العرب أن يستأصلوا شأفة الإسلام، ويقضوا على الدولة الإسلامية الوليدة بالمدينةالمنورة، فخرجوا بجيش ضخم يبلغ قرابة العشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة حصارًا شديدًا، واشتد الأمر على المسلمين، وطال الحصار دون أن يحقق جيش الكفر هدفه، فالخندق الذى حفره المسلمون يحمى الجهة الشمالية للمدينة، والجبال تحيط بالجهتين الشرقية والغربية، ويهود بنى قريظة -المتحالفون مع المسلمين- فى الجهة الجنوبية. وفى أثناء ذلك الحصار طمع يهود بنى قريظة فى النصر الشامل على المسلمين، فتحالفوا مع المشركين، وانتهى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبادر إلى التحقق منه، فأرسل سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوَّات بن جبير، وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا إلى لحنًا أعرفه، ولا تفتوا فى أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس. فلما دنوا منهم، وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد، فانصرفوا عنهم. فلما أقبلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أى أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع. يقول صاحب الرحيق المختوم: وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شىء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين فى غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى: "وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِى الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا" [الأحزاب: 10، 11]. فماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الخبر؟! يقول المباركفورى: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض يقول: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره». إجابة مفاجئة للجميع.. كيف يكون التبشير بالنصر فى ظل هذا الموقف العصيب؟! أتدرى لماذا كانت هذه الإجابة؟! لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه ما دامت الأبواب الأرضية مفتوحة أمام الناس، فإنها قد تكون سببًا فى إضعاف التوكل على الله والاستنصار المطلق به، فإذا ما أغلقت جميع الأبواب، واستنفدت جميع الأسباب، لم يكن أمام القلوب المؤمنة إلا أن تتجه بكليتها إلى الباب الأعظم.. الباب الذى لا يغلق.. باب القادر المقتدر، فتنطرح أمامه موقنة بأنه وحده الذى سينجيها، ويكفيها، وينصرها، فيحدث– تبعًا لذلك – الزلزال الذى يهدم أى تصور عن إمكانية إحراز النصر من خلال باب آخر.. عند ذلك تنفتح أبواب السماء، ويأتى الفرج من حيث لا يحتسب أحد.. ويكفيك فى هذا قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا" [يوسف: 110]. فعندما يتم اليأس التام والمطلق من الأسباب فى كونها تستطيع بذاتها أن تجلب لنا النفع أو تدفع عنا الضر، عندئذ يأتى الفرج والنصر والمدد. ويؤكد هذا المعنى الحافظ ابن رجب فيقول: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وُجدَ الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق؛ استجاب الله له». منحة فى طيات المحنة إذن -أخى الحبيب- لو استطاعت القلوب أن تتجه بكليتها إلى الله فى كل وقت، ويئست من الناس، ولم تتعلق بأحد منهم، لكان الفرج متواصلا فى السراء والضراء، ولكن طبيعة النفس، وانخداعها بالمظاهر والقوى الوهمية يجعلان البعض يظن أن الخير قد يأتيه من وراء الباطل، وأن بإمكان الباطل أن ينسى عداوته للحق وأهله، أو يفتح معهم صفحة جديدة، ومن ثم يكون هناك تعلق بالله وبالأسباب الأرضية معًا. أما حين تأتى المحن فإنها تُظهر زيف الباطل، وتنزع عنه قناعه ليظهر وجهه القبيح، وتكشف رغبته فى زوال الحق، وأن كل أفعاله التى ينخدع بها البعض لم تكن إلا ستارًا يخفى من ورائه خططه وإستراتيجياته لمحو الحق وتشويه صورته. فيكون هذا الموقف من أهل الباطل بمنزلة المفاجأة والصدمة للجميع، ليجد أهل الحق أنفسهم فى العراء، بعد أن حطم زلزال الباطل أحلامهم وأمانيهم، فيبحثون حولهم فلا يجدون شيئًا مما كانوا ينتظرون أن يجدوه، فالكل تخلى عنهم، فإذا ما راجعوا أنفسهم وعادوا إلى إيمانهم، وإلى الأساس الذى انطلقت منه دعوتهم، واتجهوا إلى الله، ودخلوا عليه دخول البائس المسكين الذى لن ينجيه أو يطعمه أو يسقيه سواه. عند ذلك يأتى الفرج، وتصبح هذه المحن من أعظم المنح، لأنها تُعيد الجميع إلى الله، وتحطم كل تعلق بغيره، فينطبق حالهم حينئذ مع قوله تعالى: "مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ أن نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214]. إن المحن مع شدتها وقسوتها إلا أنها تحمل فى طياتها خيرًا عظيمًا إذا ما أحسن أصحاب الدعوة تحليلها وتفطنوا لمراد الله منها. لمن قامت الدعوة؟! لقد قامت الدعوة لنصرة الله وإقامة دينه "أن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" [الشورى: 13] وشعارها الخالد (الله غايتنا). فمن يومها الأول وهى دعوة ربانية تستمد قوتها ووقودها من قوة إيمان أبنائها بالله وتعلقهم به وتجردهم له "وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِى إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [آل عمران: 101]. هذه هى الحقيقة الأساسية التى قامت عليها الدعوة، وكيف لا والله عز وجل هو مالك كل شىء، وقائم على كل شىء، ومهيمن على كل شىء، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.. أحاط بكل شىء علمًا.. يقدم ويؤخر، يخفض ويرفع، يعز ويذل، يقبض ويبسط، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. معنى ذلك أن الذى يفتح القلوب للدعوة هو الله "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الْحَوارِيِّينَ أن آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى" [المائدة: 111]. والذى يختار لها الأنصار هو الله "وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [الدخان: 32]. والذى يحميها ويكفيها ويحفظها هو الله "وَكَفَّ أَيْدِى النَّاسِ عَنْكُمْ" [الفتح: 20]. والذى يبتليها– تطهيرًا أو تذكيرًا- هو الله "وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ" [الدخان: 33]. والذى سيمكنها وينصرها هو الله "إن الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [الأعراف: 128]. إن مقتضى هذه الحقائق يؤكد أن جهد أبناء الدعوة ينبغى أن يتجه أولاً وقبل أى شيء، نحو الله سبحانه وتعالى لاستجلاب رضاه ومعيته وكفايته. نعم، لا بد من بذل الجهد فى دعوة الناس وإيقاظهم، وإقامة المشروع الإسلامى "وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ" [الحج: 78]، ولكن تبقى الحقيقة بأن الأمر كله لله "وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [هود: 123]. لا تحزن أن الله معنا: ولك أن تتصور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مهاجر مع صاحبه أبى بكر رضى الله عنه، وإذ بكل قوى الباطل تتبعهم، حتى يصل المشركون إلى فم الغار، فيخاف أبو بكر خوفًا شديدًا على رسول الله، وعلى الدعوة، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبى الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا.. إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلتَ أنت هلكت الأمة، ليفاجأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف، بل كان هادئ النفس، رابط الجأش، على ثقة مطلقة بالله عز وجل، وبدا ذلك واضحًا من إجابته عما أثاره أبو بكر من مخاوف: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما.. لا تحزن إن الله معنا. نعم، أخى الحبيب، لا ينبغى علينا أن نحزن إن كان الله معنا "وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا" [النساء45].