تتدرج مستويات الحديث من الخبر إلى الرأي ثم التحليل فالفرضية لترتقي إلى النظرية التي ثبت صحتها علميا، فالحقيقة المطلقة المؤكدة بنص ديني أو إثبات علمي يؤكد ثبات هذه الحقيقة على مستوى الزمان والمكان. ولكل مستوى من هذه المستويات الستة شروط ومعايير وضمانات جودته، والمتعارف عليها علميا في ميادين البحث العلمي بمناهج التفكير وشروط البحث العلمي الرصين، وفى ميدان العمل الاعلامى تعرف بالقواعد المهنية للعمل الصحفي. كما أن رسالة ومهمة الكاتب والمفكر هي توعية المجتمع والأخذ بعقله نحو الحقيقة من خلال ما ينتجه من تحليلات ورؤى فكرية، وما يتوصل إليه من فرضيات تستند إلى أدلة حقيقية مثبتة بما يوعى المجتمع ويفتح آفاق تفكير تجاه زوايا جديدة تساعده على الوصول إلى الحقيقة. وهذا ما يتمناه ويطلبه الشعب المصري من مثقفيه ومفكريه وكتابه الذين فرضوا أنفسهم على الساحة الثقافية والفكرية والسياسية، ومنحوا أنفسهم ألقابا كبيرة أراها تحتاج إلى إعادة تقييم ومراجعة في ظل المعايير المهنية العالمية للعمل الصحفي. في مقال ا / فاروق جويدة والذي أفردت له الأهرام نصف صفحة كاملة عدد الجمعة 24 مايو 2013م، قدم الكاتب سلسلة متتالية من الفرضيات التي تسير في اتجاه ونسق عام واحد ليؤكد في نهاية الأمر على فكرة ورأى سياسي يتبناه البعض في الساحة السياسية المصرية، بما يؤكد ان الكاتب يتبنى هذا الرأي السياسي الذي حاول تمريره من خلال عدة فرضيات تجاوزت الخمسة عشرة فرضية، محاولا من خلالها فرض رأيه الشخصي ورؤيته التي توصل إليها على جماهير الشعب المصري والعربى، التي تنتظر الأهرام العريق أول جريدة عرفها العالم العربى، كل جمعة لتنهل فكريا من مائدته، والمفترض أن تكون مائدة وطنية متجردة دسمة وآمنة ينهل منها جميع أبناء الشعب المصري والعربى. وقبل ان أتناول افتراضات الكاتب والتي بلغت مستوى الافتراءات في أغلبها، أبين لحضرات القراء أنواع ومستوى الفرضيات من الناحية العلمية، حتى نستطيع جميعا ان نقيم فرضيات الكاتب وأمثاله ممن تعج به الساحة الصحفية المصرية الآن. الفرضية هي تصور تكون لدى الباحث والمفكر ليجيب له عن أسئلة حالة معينة، فيجتهد الباحث لجمع بعض الأدلة والشواهد الموثقة التي تبرهن على إمكانية صحة هذا التصور، حتى ينتقل التصور إلى مستوى الفرضية، والتي تعتبر مادة خام معدة للتحري والبحث والتدقيق العلمي حتى تتأكد صحتها فتتحول إلى نظرية معتبرة، أو يتأكد عدم صحتها فتهبط إلى مجرد الرأي الشخصي المهدر. بمعنى أن الفرضية تحتاج إلى عدد من البراهين الأولية الموثقة التي تؤكد ارتقاء الرأي الشخصي إلى فرضية، وبجودة هذه البراهين قسم العلماء الفرضيات إلى ثلاث مستويات، ودللوا لكل مستوى: المستوى الأول والأعلى، وهو الفرضيات الموثقة الجيدة التي تدلل على جودة وسلامة وأمانة سير الباحث نحو الحقيقة، والمستوى الثاني الفرضيات الضعيفة، والتي تدلل على ضعف منهج، وأداء الباحث، ومن ثم ضرورة إعادة توجيهه، المستوى الثالث وهو الفرضية المعيبة أو الفاسدة والتي تدلل علميا على أمرين:إما ضعف وفساد منهج ورأى الباحث، أو سوء نية الباحث وسعيه لتوثيق رأيه الخاص بمصادر توثيق مزورة. إلى هنا انتهى تفسير وبيان أهل العلم، ومراكز البحث العلمي، والأكاديميات العالمية، والتي انتقل منها هذا المنهج إلى عالم الصحافة المحترمة. أمر آخر هام جدا يجب التأكيد عليه، هو أن أي محاولة لتمرير أية أراء شخصية، بتوثيقها بأختام مزورة، لتوجيه الرأي العام المصري والعربي في اتجاهات معينة، إنما هو من سبيل خيانة الأمانة العظمى لمصر ولعالمنا وأمتنا العربية، كما ان محاولة توسيم فصيل ومكون اساسى للمجتمع المصري والعربي من خليجه إلى محيطه، بصفات واتهامات باطلة أنما هو ظلم بين لهذا الفصيل، وتضليل مركب للرأي العام المصري والعربي، والذي يعد من قبيل خيانة الأمانة العظمى للمصر وللعروبة، والعرب هم قلب ورئة الاسلام، ومن ثم فالخيانة اكبر وأفدح. افتتح الكاتب المقال بفرضية من النوع الثالث مفادها ان السند الرئيسي لوصول الإسلاميين للحكم في مصر وتونس وليبيا، هو رصيدهم من العمل الاجتماعي، متجاهلا نضالهم التربوي والسياسي والاقتصادي والعلمي والمهني، وكونهم كفاءات بشرية قوية وأمينة أثبتت جدارتها في كافة المواقع المهنية والسياسية التي شاركت فيها على مدار ثمانية عقود من الزمان، استحقت ثقة الشعب ووجدها خير من يحمله أمانة إدارة الدولة. كما يعد ذلك مثالا صارخا لافتئات الكاتب على الشعب المصري وكافة شعوب الربيع العربى واتهامهم بالسطحية والسذاجة، وأنهم باعوا أصواتهم، ومصيرهم مقابل حفنة من الخدمات الاجتماعية،وكأن الإسلاميين اشتروهم، واشتروا أصواتهم بنشاطهم الاجتماعي. ما يؤكد جهل الكاتب بالتاريخ والنضال السياسي للإسلاميين، أو تعمد إهماله وتهميشه، وخطأ علمي آخر بتكبير وتضخيم دور العمل الاجتماعي، وتهوين وتغافل بقية الأدوار الأخرى المتنوعة في كافة مجالات الحياة. وفى ثاني فرضية من النوع والمستوى الثالث الهابط من الفرضيات يؤكد الكاتب ان وصول الإسلاميين إلى السلطة كان مفاجأة مدوية على مستوى العالم خاصة مصر بتاريخها الثقافي والحضاري. بالتأكيد أن الباحث لم يتابع أو يقرا ما يصرح به قادة العالم وصحافة العالم، منذ ما يقارب العشرين عاما من مخاوفهم من وصول الإسلاميين للسلطة بما سيهدد مصالحهم، وما قام به الإسلاميون من جهود مضنية لتصحيح الكثير من المفاهيم عن هذا التصور الخاطئ بشرح حقيقة الإسلام وانفتاح وتواصل التيارات السياسية الإسلامية على العالم بما يضمن المصالح المشتركة بين الجانبين، ربما الكاتب لا يمتلك تلفزيونا ليرى زيارات معظم سفراء العالم لمقرات الأحزاب الإسلامية في كافة بلدان العالم العربى ولقاءاتها المتكررة بقادتها ومفكريها وعلى رأسهم الغنوشى في تونس، والمرشد العام للإخوان في مصر والقيادات الإسلامية في ليبيا، والزيارات المكوكية لقوافل الشرح ومد جسور التواصل، من تيار الإسلام السياسي من العالم العربى لكافة قارات الدنيا، خاصة أوربا وأمريكا الأكثر قلقا وتخوفا، والتي تحولت كثيرا في فكرتها وتصريحاتها عن الإسلام السياسي ومدى قبولها له واستعدادها للتعايش معه. كما ان الكاتب يتعجب من مفاجأة وصول الإسلاميون إلى السلطة في مصر بثقافتها وحضارتها وترك الجملة هكذا بدون تعريف، هروبا من كتابة الحقيقة بثقافتها وحضارتها الإسلامية.. ربما توهم الكاتب أن مصر بلد غير إسلامي، وربما بوذية الاعتقاد، شيوعية الهوى، علمانية الفكر، أو أنه يرتدى نظارة سوداء حجبت عنه رؤية مآذن القاهرة التي تعدت الألف مئذنة تمثل كل منها عصر من عصور التاريخ الاسلامى لمصر المحروسة. وفى فرضيته الثالثة والفاسدة بمقاييس العلم والمنطق يقرر فشل تجربة الإسلاميين في الحكم.. هكذا كما تعودنا منه، فرضيات مطلقة، فلم يحدد هل هو فشل عام في كل من مصر وتونس وليبيا أم في بعضها، وهل هو فشل في كل المجالات أو بعضها دون البعض، هذا المنطق في التفكير والكتابة يدلل أول ما يدلل على هبوط مستوى الكتابة، وربما الاستهزاء بالقراء. لكنه للأسف سمح لنفسه، بل سمحت له الأهرام المصرية، استخدام تلك الفرضية الفاسدة لتؤدى له دورا وظيفيا اكبر، أطلق فرضيته الفاسدة ليستخدمها سلما غير شرعيا، ليقفز منه قفزة أخرى كبيرة أكثر خطأ وفسادا وتضليلا بمنح نفسه حق البحث في أسباب هذا الفشل !؟ لم يقدم لنا أي دليل أو برهان على فشل الحكم ولم يكمل عامه الأول حتى الآن، ولم يناقش اى عمل أو انجاز من انجازات النظام حتى الآن، بالتأكيد تعمد تجاهل سلسلة النجاحات الداخلية والخارجية المتتالية في مجالات الزراعة والإنتاج ونقل التكنولوجيا والصناعة...الخ بالإضافة إلى رد المظالم والحريات العامة، وخارجيا باستعادة مصر إلى جزء كبير من مكانتها الإقليمية والعالمية. وللأسف الشديد سار الكاتب على هذا المنوال على مدار خمسة عشر فرضية كاملة كلها توصف علميا بالفساد، واقسم بالله العظيم لولا حفاظي على وقتي ووقت حضراتكم، كما أنى أرى نفسي أكبر من أن أضيع وقتي في مناقشة وتحليل تلك الأفكار والآراء، لفندت جميع ما كتبه علميا ومنطقيا وقدمته لحضراتكم تفصيلا، وقد قرأت مقاله كاملا ودونت ملاحظاتي على كل فقراته. ما يشغلني هو المستقبل، فأطرح سؤلا كيف لهذا الكاتب أن يشغل نصف صفحة من الأهرام التي يدفع الشعب كل مليما فيها، وهل يعد من المقبول أن يظل هذا الكاتب وأمثاله يرتقون منصة الثقافة والفكري مصر والعالم العربى، وأمثاله كثر في بقية عالمنا العربى، ليغذى عقولنا ووجداننا، بالفاسد من الأفكار والمفاهيم، ويساهم في صناعة رأيه،وتوجيه رأيه العام، إن هذا الكاتب وأمثاله نشئوا في ظل النظام السابق حيث منحهم الألقاب والأوسمة المزورة حين كانوا تبعا له، حان وقت التطهير، واستقدام أصحاب الأقلام الحرة التي تقف من خلفها عقول علمية حقيقية وقلوب مخلصة لهذا الوطن، وأمينة على شعبه. ما أؤكده هو أن مستقبلنا مرهون بتطهير عقولنا ومؤسساتنا من أمثال هذا الكاتب، أسرع من حاجتنا للتكنولوجيا والماكينات الحديثة. أمثال هؤلاء هم الأكثر تعويقا لتنمية ونهضة المشروع المصري والعالم العربي، والأشد خطرا عليها من أعدائها المعلنين.