نالت المرأة التحرير الأكبر فى عصر الرسالة والخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، حيث شاركت المرأة فى العمل السياسى منذ فجر تأسيس الدولة الإسلامية حين هاجرت إلى الحبشة. ثم حين شهدت بيعة العقبة الثانية التى كانت تسمى بيعة الحرب. هذه البيعة التى تمت فى جو تحيطه السرية، والكتمان والحذر والخطورة أيضا، فلا غرو أن تمت البيعة فى جنح الظلام؛ خوفا من أعين المشركين. بل إن إسلام المرأة فى تلك الحقبة يعد فى ذاته عملا سياسيا بحتا، فقد حملت المرأة المسلمة عقيدة تخالف عقيدة المجتمع والسلطة الحاكمة، وواجهت الاضطهاد، والتعذيب، ثم هاجرت فى سبيل عقيدتها. ثم تطور أداؤها وعطاؤها فى عصر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، حتى تولت منصب الحسبة على الأسواق فى عصر عمر بن الخطاب، كما استشيرت فى الخليفة القادم عندما طعن عمر بن الخطاب فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما يستشير الناس، حتى استشار النساء المخدرات فى حجابهن. وأنصفها جمهرة كبيرة من فقهائنا فى العصور الأولى حتى قالوا بجواز أن تكون قاضية بعامة، ذاك المنصب الخطير الذى كان يلى مرتبة الخلافة فى الشروط والمقومات الشخصية، وهم فى ذلك مستظلون بشجرة التحرير الأكبر لها فى عصر الرسالة، فى وقت كان لا يعرف لها فيه حق. ولم يختلف الفقهاء فى ولاية المرأة للولاية الخاصة مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد، أو التعليم أو الرواية والتحديث أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع، وقد مارسته على توالى العصور. وحين نقف على تلكم الرؤية الفقهية الحضارية لحقوق المرأة فى الولايات العامة فى القرن الثانى الهجرى وما بعده، نتبين إلى أى حد حظيت المرأة فى الفقه الإسلامى بحقوقها السياسية منذ أمد بعيد. وكان من الطبيعى أن تمتد مسيرة التوسع والعطاء لحقوق المرأة، إلا أن عصور الجمود الفقهى والتعصب المذهبى والتراجع الحضارى، حالت دون ذلك ووقفت عند هذا الحد، ولم تكتف بذلك، بل أرادت أن تتراجع عن المكتسبات الحقوقية فى الولايات العامة للمرأة التى قررها الفقهاء من قديم. وأراد البعض أن تظل المرأة حبيسة بيتها، وأن تظل أسيرة عادات وتقاليد ليست من الإسلام فى شىء، وحاولوا فى ذلك أن يضفوا على نظرتهم صفة الشرعية بتفسيرات مغلوطة لبعض النصوص الشرعية، مثل تنصيف ميراث الأنثى بالنسبة للذكر، وتنصيف شهادة المرأة بالنسبة للرجل، وأن النساء ناقصات عقل ودين، وأن مقر المرأة فى البيت لا تخرج منه إلا لضرورة. وكان هذا أكبر خطر يواجه قضية المرأة، ألا وهو خطر سيادة مفاهيم وتصورات تخالف ما جاء به الشرع الحنيف من تحرير بالغ للمرأة. وفى ظل سيادة هذه المفاهيم الخاطئة عن المرأة التى تتزيا بزى الشرع ظل وضع المرأة فى تراجع. وفى عصرنا وقعت المرأة ضحية بين صنفين من الغلاة.. غلاة المتدينين، وغلاة العلمانيين ومَن على شاكلتهم، وكلا الصنفين ظلم المرأة، وأساء إلى قضيتها العادلة. وهناك جهود من الإصلاحيين فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية ترمى إلى إعادة الحقوق للمرأة، لتقوم بدورها إلى جوار أخيها الرجل فى النهوض بالمجتمع والمشاركة فى الحياة العامة، فالمرأة العدل كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة، كما يقرر -بحق- ابن القيم فى "الطرق الحكمية". وهذه الجهود تمثل نظرة الإسلام الصحيحة للمرأة وفق الضوابط التى يضعها لهذه المشاركة. وامتدادا لمسيرة التحرير الأول للمرأة فقد أثبتُّ لها -فى بحث فقهى- الحق فى أن تكون نائبة وناخبة، وقاضية، ووزيرة، ورئيسة، من خلال مناقشة علمية هادئة، انتهيت منها إلى أن الفقه الإسلامى فى مجموعه يبيح للمرأة أن تكون كل هذا بضوابطه فى إطار الدولة المعاصرة التى توصف بأنها دولة المؤسسات، ورأيت أن الأساس الأكبر الذى ينبغى أن ترتكز عليه قاعدة شغل المناصب وتولى الولايات هو الكفاءة والقدرة بعيدًا عن جنس من يشغلها ويتولاها، وليس كل رجل يصلح أن يتولاها ويشغلها، وليست كل امرأة كذلك.