تهنئة وشكر: أود أن أبدأ مقالة اليوم بتهنئة الأخ الكريم الشيخ الدكتور شوقى إبراهيم عبد الكريم علام، على ثقة كبار العلماء وترشيحه لموقع مفتى الديار المصرية، وأسأل الله أن يزيده علما وتوفيقا، وأن يستكمل مسيرة التطوير لدار الإفتاء التى بدأها فضيلة الدكتور على جمعة، الذى يستحق الشكر على أدائه خلال فترة توليه المنصب، وأسأل الله أن تأخذ الدار موقعها اللائق وتؤدى رسالتها المرجوة على يد المفتى الجديد إن شاء الله. توضيح وتصحيح: وبمناسبة التهنئة للمفتى الجديد والشكر للمفتى السابق، ورفعا للبس وتصحيحا لبعض ما أثاره بعض الإعلاميين؛ أود التأكيد على أننى لم أتقدم بطلب الترشح للموقع الجليل، ولا سعيت إلى ذلك، ولا قام الإخوان المسلمون بترشيحى، ولا أعلم أن أى جهة قامت بترشيحى، ومن ثم لم يكن اسمى من الأسماء المطروحة أصلا على هيئة كبار العلماء، وما ذكره بعض الإعلاميين من أنه قد تم استبعادى من المنصب الجليل أو أننى لم أحصل على أصوات شيوخنا من كبار العلماء، كل ذلك لغو لا أصل له، وليس سوى تخيلات تملأ رأس البعض فيكتبها كأنها أخبار، أو ينسبها لمصادر مجهولة على عادتهم فى ترويج ما لا أصل له، ظنا منهم أن صياغة الأخبار وإشاعتها بهذه الصورة يمكن أن تحدث شقاقا بين الإخوان وبين المؤسسة الأزهرية، وها أنذا أجدد التأكيد على أن الإخوان والأزهر وجهان لعملة واحدة، يحملان الفكر الوسطى المعتدل ذاته الشامل للإسلام. سؤال: والآن أنتقل للإجابة على السؤال الذى ختمت به مقال الأسبوع الماضى، والذى صاغه البعض على النحو التالى: لقد أدى التناحر السياسى فى مصر إلى عودة مظاهر البلطجة التى لقيت تشجيعا -ولو كان غير مباشر- من تصرفات بعض السياسيين، وكذلك استغل بعض البلطجية انشغال الأجهزة الأمنية فى حماية المنشآت الحكومية التى يعتدى عليها المندسون بين المتظاهرين، لينطلقوا فى ممارسة البلطجة فى أنحاء البلاد، فكثرت حوادث الخطف المسلح والسرقة بالإكراه والاعتداء على المواطنين بقوة السلاح، فهل من تعرض له بلطجى فدافعه واضطر لاستخدام آلة حادة أو آلة تسبب القتل فى مدافعته، هل يدخل فى الوعيد الشرعى الوارد فى الحديث المتفق على صحته وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: ((إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ))؟ الجواب: للإجابة على هذا السؤال لا بد من بيان أن اللفظ الذى استخدمه الفقهاء للتعبير عن (البلطجى) هو لفظ الصائل، واللفظ المستخدم فى كتب الفقه للتعبير عن (البلطجة) هو لفظ الصِّيَال، وقد قال الحافظ ابن حجر فى "فتح البارى" تعليقًا على هذا الحديث: «مَنْ قَاتَلَ أَهْل الْبَغْى أَوْ دَفَعَ الصَّائِل فَقُتِلَ فَلا يَدْخُل فِى هَذَا الْوَعِيد؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِى الْقِتَال شَرْعًا». ودفع الصائل هو: الدفاع الشرعى عن الأهل أو المال أو العرض أو البيت أو الوطن، أو هو الدفاع المشروع عن الغير فى كل هذه الأمور. والصّيال حرام وكبيرة من الكبائر، لأنّه اعتداء على الغير، لقوله تعالى ?وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ?، وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم فى الصحيح: ((كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)). والاستسلام للصائل وتمكينه من تحقيق غرضه حرام لقوله تعالى: ?وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?، فالاستسلام للصّائل إلقاء بالنّفس للتّهلكة، لذا كان الدّفاع عنها واجبًا، ولقوله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ?. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى، قَالَ: ((فَلَا تُعْطِهِ مَالَك))، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَاتَلَنِى؟ قَالَ: ((قَاتِلْهُ)) قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلْته؟ قَالَ: ((هُوَ فِى النَّارِ)) قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلَنِى؟ قَالَ: ((فَأَنْتَ شَهِيدٌ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَفِى لَفْظِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ عَدَا عَلَى مَالِى؟ قَالَ: ((أَنْشِدْ اللَّهَ)) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَىَّ؟ قَالَ: ((أَنْشِدْ اللَّهَ)). قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَىَّ؟ قَالَ: ((قَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِى الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِى النَّارِ)). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِى لَفْظٍ: ((مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ))، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِى وَالتِّرْمِذِى وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِى وَصَحَّحَهُ. فهذه النصوص وغيرها تدل بوضوح على وجوب الدفاع عن النفس والعرض والمال أمام البلطجية وقطاَّع الطرق الذين يتعرضون للآمنين. حكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلا دِيَةٌ وَلا كَفَّارَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاَلَّذِى عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْفَعَ عَمَّا ذُكِرَ إذَا أُرِيدَ ظُلْمًا بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، إلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ السُّلْطَانِ لِلآثَارِ الْوَارِدَةِ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ». (نيل الأوطار) وقد استنهض الإسلام عزائم المؤمنين للدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان: ?وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ? [النساء: 75]. ومن مسائل الْإِجْمَاعِ: أَنَّ مَنْ شَهَرَ عَلَى آخَر سِلاحًا لِيَقْتُلهُ فَدَفَعَ عَنْ نَفْسه فَقَتَلَ الشَّاهِرَ أَنَّهُ لا شَىْء عَلَيْهِ، وقال ابن حجر فى الفتح: «وَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز دَفْع الصَّائِل وَلَوْ أَتَى عَلَى نَفْس الْمَدْفُوع»، كما ذكر ابن حجر فى الفتح مشروعية دَفْع الصَّائِل، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِن الْخَلاص مِنْهُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ عَلَى نَفْسه أَوْ عَلَى بَعْض أَعْضَائِهِ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ هَدَرًا. قال ابن جرير فى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) (أخرجه أحمد عن ابن عباس والنسائى عن سويد بن مقرن): «هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلمًا فى قتال ظالمه والحث عليه كائنًا من كان؛ لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقُطَّاع مطلوب، فتركه من ترك النهى عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلمًا» (فيض القدير). التكييف الشرعى لدفع الصائل: اختلفوا هل الدفاع عن النفس أو الأهل أو المال فى مواجهة البلطجى واجب على المدافع، أم هو حق له؟ والقول بالوجوب فيما يتصل بالنفس والعرض قول أكثر أهل العلم. أما الدفع عن المال فأغلب الفقهاء يرونه جائزًا لا واجبًا. والفرق بين الواجب والحق: أن الحق يتضمن التخيير بين الفعل والترك، والواجب لا تخيير فيه؛ كما أن صاحب الحق لا يعتبر آثمًا بالفعل أو الترك، أما تارك الواجب فآثم شرعًا. وبعض العلماء يفرقون بين حالة الفتنة وغيرها، ويجعلون الدفاع جائزًا مطلقًا فى حال الفتنة، أما فى غير حال الفتنة فيجعلونه واجبًا مطلقًا. شروط دفع الصائل: حتى لا يكون الأمر سببًا لإثارة فتن فى المجتمع فقد استنبط العلماء من النصوص السابقة شروطًا لدفع الصائل ومواجهة البلطجى يجب توفرها حتى يعتبر المعتدى عليه فى حال دفاع، ويمكن إجمال هذه الشروط فى أربعة كالتالى: أولًا: أن يكون هناك اعتداء، أو عدوان من البلطجى، أما إذا كانت السلطات العامة هى التى تطبق واجباتها، فتقوم بإنفاذ أمر قانونى أو قضائى بالقبض على المتهم، أو تفتيشه، أو تنفيذ عقوبة محددة فى محكوم عليه فهذا ليس اعتداء ولا بلطجة، بل أمر مشروع، بل قد يكون واجبًا. ثانيًا: أن يكون هذا الاعتداء حالًّا وحاصلا، أما أن يكون مجرد تهديد لفظى دون وقوع اعتداء فلا يجوز دفعه باستعمال القوة ضد القائم بالتهديد، إلا إذا غلب على الظن أنه سينفذ تهديده فعلًا وظهرت شواهد قوية على ذلك. ثالثًا: أن يكون مضطرا لرد الاعتداء بالقوة ولا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة العمومية فى الوقت المناسب، أو استطاع المصول عليه أو المعتدى عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال القوة والعنف فليس له أن يستعملها. رابعًا: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه دون زيادة، فإذا أمكن دفع الصائل أو البلطجى مثلًا بالصياح والاستغاثة لم يكن له أن يدفعه باليد، وإن كان فى موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد، فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا، فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف عضو، فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل، ويكون دم المعتدى فى هذه الحالة هدرا. هذا والله أعلم. وفى الختام: فإن دور البلطجية يزداد ويتمدد فى الفراغ الذى تتركه الدولة وأجهزتها الأمنية، وإذا زادت الظاهرة كانت منذرة بحرب أهلية، ولهذا فإن الأمم الحية والدول المتحضرة تعمل على مواجهة ظاهرة البلطجة مواجهة شاملة، من خلال الوقوف على أسباب الظاهرة دينيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وتتداعى جميع أجهزة الدولة وهيئات المجتمع المدنى للتوحد فى مواجهة هذا الشر المستطير وتنسيق الجهود للتخلص من البلطجة، وهذا ما نحتاج إليه فى مصر اليوم للنهوض والتعافى وتجاوز الأزمة. والله الموفق والمستعان.