أ.د. محمد المحمدى مدير مركز البحوث والدراسات التجارية بجامعة القاهرة لا يختلف أحد على أن الإنسان هو المحرك والمحور الأساسى لأى تنمية سواء كانت إدارية أو اقتصادية أو فى أى مجال من المجالات. كما أن الدراسات الأكاديمية والتجارب الميدانية لا تزال تثبت يوما بعد يوم أن المنظومة الأخلاقية والقيم الأساسية هى ما يمثل بؤرة الاهتمام والتوجيه فى أى منظمة. حتى إن حقلا مهما قد نشأ فى مجال الأعمال للبحث فى كل ما يتعلق بأخلاقيات الأعمال، وفى زيارة لى فى عام 1994 لأمريكا اطلعت على عدد من الكتب واقتنيت أحدها وتحاورت مع مؤلفه الذى علمت منه أنه يعمل مستشارا للعديد من الشركات فى هذا المجال وهو أصلا قس فى إحدى الكنائس. كما لا يفوتنى أن أذكر بآخر ما حاول كتابته عالم الاجتماع الأشهر ماكس ويبر صاحب نظرية البيروقراطية المثالية فى ألمانيا فى بدايات القرن العشرين، حيث كان قد بدأ فى أخريات حياته دراسة مهمة عن العلاقة بين الأسس الأخلاقية أو الدينية للرأسمالية، فربط بين نشأة وتقدم الرأسمالية الاقتصادية والأسس الأخلاقية للمذهب البروتستانتى ولقد كان ذلك فى أعظم تجلياته، ولقد علمت أن المؤلف كان يؤسس فيه لبناء هذه النظرية من خلال البحث فى الأساس الدينى للتقدم الاقتصادى فى الدين الإسلامى، الذى أعلن انبهاره الأولى لكل ما يحتويه من أسس عظيمة تؤسس لمذهب اقتصادى متوازن. إن ما ذكرته يعد أمثلة محدودة تؤكد أهمية هذا الحقل الذى قل الاهتمام به لدينا إن لم يكن انعدم تماما. المعادلة الأخلاقية: إذا اتفقنا أن الإنسان هو جوهر أى تقدم أو تنمية فى أى مجال من المجالات، فإننا يجب أن نبحث عن الأساس الأخلاقى الذى يحكم هذا الإنسان ويضبط حركته بشكل صحيح على مسار هذا التقدم المستمر الذى يحقق لأى منظمة –بما فيها الدول– أعلى درجة من الميزة التنافسية المستدامة على أقرانها. إن هذا الأساس الأخلاقى يمكن تركيزه فى كلمتين تشكلان معا المعادلة الأخلاقية وهما: الحق والواجب. ولعل أول من قرأت له فى هذا الصدد هو المفكر الجزائرى مالك بن نبى فى كتابه الرائع المسلم فى عالم الاقتصاد فى سبعينيات القرن الماضى، حيث يمكن التعبير عن العلاقة الأخلاقية المتوازنة فى شكل معادلة: واجب- حق= صفر وينشأ عن ذلك ثلاث علاقات: علاقة العدل، وعلاقة التطفيف، وعلاقة الإحسان علاقة العدل: واجب- حق = صفر أو: واجب = حق وهذه العلاقة هى علاقة العدل فى التعامل، التى تخلو من الظلم وتراعى المصالح المشتركة لأى طرفين لتحقق فى النهاية الكسب لكليهما فى ظل توازن يحافظ على استمرارية هذه العلاقة ودعمها فى المنطلق الإسلامى "لا ضرر ولا ضرار"، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وغير ذلك من الآيات والأحاديث الداعية لضرورة مراعاة علاقة التوازن القائمة على العدل بين الحق والواجب بين كافة أطراف التعامل فى أى موقف، كحد أدنى مقبول يضبط كافة علاقات التعامل فى المنظور الإسلامى. علاقة التطفيف (الظلم): واجب- حق= سالب.. وهذه العلاقة هى ما يمكن تسميته علاقة ظالمة يسعى فيها طرف على الحرص على نيل كافة حقوقه دون أن يؤدى ما عليه من واجبات أو يحرص دائما على أن يكون الواجب الذى عليه بذله أقل من الحق الذى يحرص على أخذه. وهذه العلاقة سيكون فيها طرف يكسب هو الأنا، وطرف يخسر وهو الآخر. وحينما تشيع هذه العلاقة فى أى مجتمع، ابتداءً من الأسرة وحتى الدولة فإن الحصيلة المؤكدة هى الخسارة للجميع. وهذا ما يأباه الشرع الإسلامى فى كل أدبياته ومصادره، بل يُبشّعه. ولعل من أروع ما ورد فى ذلك سورة كاملة من سور القرآن تسمى سورة المطففين: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. [المطففين: 1، 6}. حيث نقف هنا أمام ظاهرة اعتبرها القرآن بشعة وتوعد أصحابها بالويل. وقيل: هو واد فى جهنم. هذه الظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة التطفيف الاجتماعى التى تكون علاقة التعامل فيها مختلة فيحرص طرف وهو المطفف أن يأخذ أكثر مما يعطى. وهكذا كما رأينا فإن العلاقة الثانية التى تعتبر فى المعادلة علاقة سالبة تعتبر مرفوضة أصلا كعلاقة غير متوازنة، لا يرضى عنها الإسلام. ولذلك فإن مهمة الرسل والأنبياء وكافة المصلحين الذين يسيرون على هداهم هى ضبط العلاقة الأخلاقية ولا يتم ذلك إلا بضبط علاقتهم بالله وإرجاع الأمر له وحده، واعتبار كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو حركة أو سكون أو أى سلوك إنما يمثل كلا متكاملا ينضبط وفق منظومة متكاملة تتوافق مع مراد الله من البشر بل تنضبط مع الحركة الكونية العامة المنضبطة أصلا بسنن الله فى الكون. ولنراجع قوله تعالى فى سورة هود {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. وسوف تجد رد شعيب عليه السلام كما يصوره القرآن أيضا من أروع ما يكون وهو يمثل قدوة يستشهد بها كل مصلح حق ليس فقط بالكلام وإنما بالعمل. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. قلما يلتفت إلى قول شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وهو هنا قمة الروعة لأنه يمثل قمة القدوة والتطبيق على نفسه لكل ما يدعو إليه قبل أن يأمر به، ولكن كان ردهم أعجب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} وهنا مكمن الخطورة حينما تطغى المعادلة الاقتصادية والسلوكية المختلة وتسود لغة العضلات والقوة. علاقة الإحسان: وهذه هى أرقى العلاقات فى هذه المعادلة؛ حيث يكون الناتج فيها موجبا دائمًا: واجب – حق = + وهذا معناه أن المسلم يكون اهتمامه بأداء ما عليه مقدما على طلب ما له. وهذا ما يطلق عليه فى الإسلام الإحسان، وهو يمثل أرقى مستوى من مستويات الأداء، فإذا ما تغلغلت المعادلة الأخلاقية بمفهوم الإحسان إلى مجموع الأفراد وعموم المجتمع، فإن المحصلة الطبيعية أنه لا خسارة لأحد، بل سوف يظفر الجميع بحقه دون طلب أو عنت، خاصة بعد أن تأكدنا أن المعادلة ذات طرفين، وأنه ما سوف أحرص على أدائه بكل إحسان لطرف آخر باعتباره واجبا علىَّ يعتبر فى الوقت نفسه حقًّا له، وما سوف يؤديه هو من واجب عليه هو فى نفس الوقت حق لى، تمامًا كعلاقة الزوج والزوجة مثلا. وهذا من قمة الإحسان الحقيقى الذى لاشك سوف يسعد به أى مجتمع. ولعل هذا ما يوضح لنا مقدار حفاوة الإسلام بالإحسان والدعوة إليه واعتباره من أهم الأبواب الموصلة للجنة. فهل ينعكس كل ذلك على التنمية والنهضة الاقتصادية ومعادلتها التى تجعل المجتمع فى رخاء ونمو مستدام، بلا شك، ولكن يحتاج ذلك لمقالة مستقلة.