أ.د. صلاح الدين سلطان الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر www.salahsoltan.com أمانة الدعوة تقتضى البلاغ بالقلب واللسان، لقوله تعالى: "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية: 21-22)، وأمانة الدولة تقتضى التغيير بالقلب واللسان واليد، كما قال تعالى: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج:41)، أمانة الدعوة توجب تقريب كل الناس إلى رب الناس، لقوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" (الأعراف: من الآية 158)، وقال صلى الله عليه وسلم: "خَلّوا بيْنى وبين الناس"، وأمانة الدولة تقتضى أن تقول للتقى الورع الذى لا يقدر على الإدارة كن رجل دعوة لا دولة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى ذر رضى الله عنه فى الحديث الذى رواه مسلم: "يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها- أى الإمارة- أمانة، وإنها يوم القيامة، خزى وندامة"،وأبو ذر كان أنجح الناس دعويًا؛ فبعد إسلامه بقليل هدى الله على يديه قبيلتين كبيرتين؛ هما: بنو غفار وبنو أسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم له: "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّتالغبراءأصدق من أبى ذر" (سنن الترمذى، حديث حسن). ومع التحول من مرحلة الدعوة بمكة إلى الدولة بالمدينة لم يولَّ أبو ذر على اثنين، أما عمرو بن العاص الذى حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنا قبل إسلامه، بل أوفدته قريش إلى الحبشة ليفسد النجاشى على المهاجرين المضطهدين من المسلمين، لكنه لما أسلم بعث النبى صلى الله عليه وسلم إليه وقال له: "ألا أبعثك وأحذيك؟" -أى أمنحك راتبا كبيرا ليغطى مصاريف وجاهتك- فقال عمرو: "ما أسلمت من أجل المال، ولكنى أسلمت رغبة فى الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: "يا عمرو نعم المالالصالحللمرء الصالح" (الصحيح المسند، حديث صحيح)، وقد قاد الأمور بكثير من الحكمة وندرة من الأخطاء، حتى إنه كان أول من اقترح مبادِرا على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن نفتح مصر لنقضى على آخر قلاع الرومان ونحصن الفتح الإسلامى للقدس وفلسطين والشام، فأجازه سيدنا عمر وفتحها، وأكرم عمرو المقوقس الأكبر عظيم القبط، وأحسن إلى النصارى المقهورين من نصارى الرومان، فجاء الإسلام بردًا وسلامًا على كل أهل مصر قاطبة على يد رجل الدولة عمرو بن العاص، وهو الذى وجّه عقبة بن نافع لفتح ليبيا تأمينا للجبهة الغربية لمصر ففتحها. رجل الدعوة "يطبطب" على كل المدعوين أملا أن يردهم إلى طريق الصالحين، ويأخذ بأيديهم إلى النور المبين، والصراط المستقيم، لكن رجل الدولة يفعل غير هذا؛ فيستبعد غير الأمين على المال، والجبان عن مسئولية حماية الثغور، وجهاد الأعداء، ويستبعد فى وظائف الأمن من يفشى أسراره، ويكثر كلامه، والضعيف الذى يرتعش من كل صيحة، ويستبعد من الإدارة من يجيد وصف المشكلة دون التفكير فى حلّها، حتى قيل: القائد إذا عرضتَ عليه مشكلة بادر إلى اقتراح حلولها، والفاشل إذا وُضع له ألف حلٍ وحل يُخرج لك ألف مشكلة ومعوق فى كل حل، ومنهج رجل الدولة إذا اتفق على إنجاز شىء أن يتابع ويدقق، فإذا وجد غير ما اتفق عليه قام بالتذكير أولا، والعتاب ثانيا، والحسم أخيرا كما قص علينا القرآن من قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر لما سأله فى المرة الأولى ذكّره بأرق لغة: "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرًا" (الكهف:72)، فلما سأل فى الثانية علت النبرة من التذكير إلى العتاب، باستعمال كلمة "لك" فى قوله تعالى: "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرًا" (الكهف: 75)، فلما سأل الثالثة حسم وفصل فى الأمر فقال: "قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" (الكهف:78)، وها هو ذو القرنين يدخل على أهل مغرب الشمس بقوله: "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" (الكهف:87-88)، فجمع بين لين رجل الدعوة فى قول الحسنى للمؤمنين الصالحين، ورجل الدولة أنه سيعذب باستعمال القضاء كلّ من يظلم غيره، ولما اشتكى القوم من يأجوج ومأجوج، لم يقل لهم بلغة رجل الدعوة: "صبرا آلياسر، فإن موعدكم الجنة" (فقه السيرة، حسن صحيح)،بل تحدث بلغة رجل الدولة بقوله: "فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" (الكهف: من الآية 95)، فلما فرغ من دوره كرجل دولة عاد رجلَ دعوة بقوله عن السد: "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا" (الكهف:98)، فعرف متى يكون رجل دعوة، ومتى يكون رجل دولة، وإذا كانت أمانة الدعوة تلزم أن نستوعب كل الناس مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، وعندما يخطئون نغفر ونتسامح ونتغافر، لكن رجل الدولة الفذ سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما جاءه قبطى من مصر يشكو اعتداء ابن رئيس مصر آنئذ وهو عمرو بن العاص، أرسل عمر للرئيس وابنه وبدأ فى محاكمتهما محاكمة عادلة، ثم قال: "قم واضرب ابن الأكرمين"، فقام القبطى فضرب ابن الأكرمين، وهمَّ عمر بضرب عمرو؛ لأن ابنه ضرب القبطى معتمدا على سلطان أبيه. أمانة الدعوة تقتضى اختيار أعمق الناس فكرا فى فهم الرسالة، وأكثرهم معرفة بأحوال وتحديات مجتمعه، ثم آنقهم وأرقّهم فى طرائق الدعوة إلى الله، لكن أمانة اختيار رجل الدولة تقتضى استبعاد الضعاف ممن لا يجيدون استكشاف عناصر القوة والضعف والفرص والتهديدات، ثم اكتشاف رجال الدولة معه، من الأمناء الأقوياء فى حمل الرسالة، ثم يحدد أولويات الزمان والمكان، ثم يضع خطة طموحة بشرط ألا تكون خيالا، ثم يراعى المتابعة الميدانية والمكتبية معا ليسلم من "تزويق" التقارير، ثم يستمر فى مشوار التحسين والتطوير سعيا للأحسن دائما. هناك رجال دعوة لا يصلحون رجال دولة، ورجال دولة لا يعرفون شيئا عن الدعوة، وقد قال أخى وصديقى د. أيمن الغايش: "هناك من لا يصلح لهذا ولا ذاك لكنه يبقى من أصحاب الرغبة أن يكون رجل دعوة أو دولة". يجب أن نصْدق الله فى اكتشاف أنفسنا: هل نحن رجال دعوة أم دولة أو هما معا؟، وابدأ فى حزم وعزم أن تختار الموقع الذى تجيده دعوةً أو دولة، أو هما معا لتكون أهلا لقيادة الدولة برشد وقوة وأمانة، وإلا فيكفى أن تكون من أصحاب الرغبة، فنية المرء خير من عمله.