زيارة مرسى لإيران.. مصر ابتعدت عن الأجندة الأمريكية وتعمل وفق معطيات الأمن القومى منذ اللحظة الأولى التى أعلنت فيها إيران توجيه الدعوة للرئيس محمد مرسى لزيارتها لحضور قمة دول عدم الانحياز، ثار جدل حاد وظهرت مخاوف كبيرة ليس فقط داخل مصر ولكن أيضا خارجها، من أن يتم استغلال هذه الزيارة التى لم يقم بها رئيس مصرى منذ أكثر من ثلاثين عاما، لجذب مصر بعيدا عن محيطها العربي، لتصبح رقما مضافا إلى ما يسمى محور الممانعة الذى يضم إيران وسوريا وحزب الله، الأمر الذى ستكون له تداعياته الخطيرة على الأمن القومى المصرى كما على الأمن القومى العربى عامة والخليجى خاصة. وقد عبرت دول الخليج عن تحفظها على أى تقارب مصرى إيرانى على حسابها منذ سقوط نظام حسنى مبارك بعد ثورة يناير، وبدء ظهور توجهات لتغيير السياسة الخارجية المصرية، عبر عنها وزير الخارجية حينئذ نبيل العربى. ورغم التطمينات التى قدمتها مصر لدول الخليج طوال الشهور الماضية خلال الزيارات المتتالية التى قام بها مسئولون مصريون لتلك الدول، إلا أنها لم تنجح فى إزالة هذه المخاوف بشكل كامل. حتى جاءت دعوة طهران للرئيس مرسى الذى أعلن عن قبوله الدعوة، وهو الأمر الذى جدد المخاوف وزاد من الجدل الدائر الذى تحول إلى تحذيرات انطلقت من شتى الاتجاهات لمنعه من القيام بهذه الزيارة. ورغم إعلان الرئاسة المصرية أن الزيارة لن تستغرق أكثر من أربع ساعات، إلا أن هذا لم يحدّ من المخاوف التى دفعت بعض دول الخليج إلى التصريح بمخاوفها تلك بشكل علنى، كما جاء فى مقالات الصحف التى تعبر عن النظم الحاكمة فى هذه البلدان. لكن مع وصول الرئيس مرسى إلى طهران، ومع الكلمات الأولى لخطابه الذى يمكن أن يطلق عليه بحق صفة التاريخى، تبددت بعض من تلك المخاوف وتحول كثير من المواقف المنددة والرافضة لتلك الزيارة إلى مساندة وتأييد للرئيس، بعدما سمعت ورأت مواقفه الشجاعة التى أعلن عنها فى هذا الخطاب، الذى أسس لسياسة خارجية مصرية جديدة تمكن مصر من استعادة دورها الريادى، تقوم على أساس استقلالية القرار الوطنى والتعامل مع كافة دول العالم على أساس من الندية والاحترام المتبادل. هذه التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية المصرية تحرر مصر من حالة التبعية التى كانت موجودة إبان حكم النظام السابق، سواء للولايات المتحدة أو الغرب فى تعاملها مع دول العالم، حيث كانت مجرد ظل لسياسات تلك الدول، كما أنها تحررها من المطالب غير العقلانية التى كانت تطالب بها دول الخليج بحجة حماية أمنها فى مواجهة إيران، حيث كانت تلك الدول تطالب مصر بعدم إقامة أية علاقات مع طهران؛ حتى لا يتم استغلالها من جانب الجمهورية الإسلامية ضد دول الخليج العربى، فى حين أن تلك الدول تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية مع إيران بنفس الحجة وهى محاولة حماية أمنها من مخاطر التهديدات الإيرانية. الآن لم تعد مصر تعمل وفق الأجندات الأمريكية أو الخليجية، بل تعمل وفق معطيات الأمن القومى المصرى الذى يعتبر جزءا من الأمن القومى العربى، الذى تتطلب حمايته بناء علاقات قوية ومتوازنة مع كافة دول العالم وفق إستراتيجية شبيهة بتلك التى وضعها وزير الخارجية التركى داود أوغلو، والقائمة على "تصفير" المشاكل مع الدول الجارة لمصر، باستثناء إسرائيل باعتبارها كيانا غير طبيعى وعدوا دائما لمصر. والهدف من تلك السياسة هو إقامة علاقات متوازنة مع كافة دول الإقليم تقوم على احترام المصالح المتبادلة والتعاون من أجل التكامل فى مواجهة أطماع الدول الكبرى فى المنطقة وثرواتها، وسيترتب على هذا التوازن فى العلاقات التحرر من التبعية الكاملة للغرب وإعطاء هامش واسع من التحرك أمام الدولة المصرية يمكنها من لعب دورها المحورى فى المنطقة. وفى هذا الإطار يمكن فهم المواقف التى أطلقها الرئيس مرسى فى قمة دول عدم الانحياز، وتأكيده على ضرورة إعادة صياغة النظام العالمى حتى يكون أكثر عدلا وتحقيقا لمصالح كافة الدول. وكذلك موقفه المؤيد للثورة الثورية الذى انطلق من مبدأ أن تقرير المصير حق للشعب السورى، خاصة فى مواجهة نظام ديكتاتورى طائفى حول دولة عربية كبرى إلى مجرد تابع لإيران التى تسعى إلى تنفيذ مشروع إمبراطورى فى المنطقة من أجل السيطرة عليها، وهو يشبه بذلك المشروع الذى تنفذه الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية التابعة لهما. ومن هنا جاء طرح مرسى لمبادرة حل الأزمة السورية عبر التواصل مع إيران وتركيا ودول الخليج ممثلة فى السعودية، والتى سيترتب على نجاحها ليس فقط حل الأزمة السورية ولكن أيضا ترسيخ التوازن بين القوى الأساسية فى الإقليم وهى تركيا وإيران والدول العربية بقيادة مصرية، بحيث تعود إيران إلى حجمها الطبيعى كدولة رئيسة فى الإقليم إلى جانب دول أخرى. وهو ما يعنى انتهاء تهديداتها لبعض الدول العربية، خاصة دول الخليج، كما أنه قد يكون بداية لتشكيل تحالف بين الدول العربية وإيران وتركيا للقضاء على الهيمنة الغربية على مقدرات المنطقة؛ وهو ما سيحقق الأمن والحرية لجميع دول المنطقة.