"من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟". وكأن عبد الرحمن الكواكبي صاحب العبارة السابقة، لا يزال بيننا حيًا ويصف بتلك الكلمات طائفة من المنتسبين إلى العلم والدعوة، منحت الحاكم الذي يُفترض أنه خادم للأمة كل هذه القدسية، تسوق الناس إلى التسبيح بحمد الحكام وإن جاروا، وعدم المجاهرة بالإنكار عليهم مهما أتوا من ظلم، ومناجزة كل من عارضهم بقول أو فعل أو فكرة، وعن المداخلة وأشباههم من الجامية أتحدث. وفي حربه ضد العاصمة طرابلس مقر الحكومة الشرعية، استعمل اللواء الإرهابي خليفة حفتر قنابل عنقودية محظورة دوليًا، قتل المدنيين الليبيين والمهاجرين غير النظاميين، نكل بالجثث ودمر البنية التحتية للمدينة، سرق ثروات البلاد وأعطى مفاتيح ليبيا إلى مرتزقة يتعطشون إلى الدم. لم يكتف حفتر بهذا، فما إن استعادت قوات الوفاق الشرعية قبضتها على مدن وبلدات الغرب الليبي، حتى بدأت جرائم أخرى لحفتر ومرتزقته تظهر للعيان، ألغام ومتفجرات في المنازل والطرقات وفي الجثث أيضًا، اختطاف للنساء ومقابر جماعية أغلبها في مدينة ترهونة. جرائم جديدة بحق الليبيين تضاف إلى سجله الدموي الذي تراكمت فيه جرائم الحرب، ومن شأنها أن تعري حفتر أمام المجتمع الدولي وتكشف حجم وحشيته، فلا هم له إلا سفك الدماء وتدمير الديار، فمن أفتى له بهذا الإجرام وأعطاه الضوء الأخضر بفتاوى دينية؟ السعودية! لطالما استخدمت السعودية الدين في خدمة أهدافها السياسية؛ منذ نشأتها على أساس ديني قام بالتحالف ما بين سلطة سياسية يقودها "آل سعود"، وسلطة دينية يقودها "آل الشيخ"، ولم ينفك هذا الترابط حتى اليوم. وسعت السعودية إلى تمويل تيارات دينية في العالم العربي بغية تحقيق أهدافها في المنطقة، ونشرت "مذهب محمد بن عبد الوهاب" الذي تتبناه قدر المستطاع في العالم الإسلامي. وكان من أبرز التيارات التي صعدت في المملكة خلال العقود الماضية هو تيار "المداخلة" الذي ينحدر من "السلفية"، إلا أنه يبالغ في مبدأ طاعة ولي الأمر مهما كان الحدث جللاً، ومهما عم الاستبداد أو الطغيان السياسي في البلاد. واعتمد التحالف التابع لقوات حفتر على أن يكون هجومه خاطفًا وانتصاره سريعا، وعندما استُنزفت قواتهم في معركة طويلة جنوب وغرب طرابلس، بدا أن هذا التحالف القبلي يتهاوى ظهر ذلك ببروز الخلاف بين حفتر وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق، وانحاز إلى عقيلة بعض شيوخ المداخلة وهم تيار سلفي يشكل كتائب مسلحة في ليبيا واليمن، موالية للسعودية والإمارات أو لأحدهما، والنسبة هي لمؤسس التيار ربيع المدخلي. وفي منتصف عام 2019، انقلب اللواء التاسع، ذو التوجه السلفي والقائم بترهونة، على حكومة الوفاق، وانضم للقتال إلى جانب قوات حفتر. يبعد اللواء 90 كيلومترًا فقط عن العاصمة الليبية، ويخترق اللواء طرابلس من محور ثالث، هو محور عين زارة حتى صلاح الدين، غير المحورين الذي كان حفتر يشن هجومه عبرهما بالفعل. وكانت ترهونة خزان الإمداد لقوات حفتر سواء من جهة جنوبطرابلس، أو في إطلالتها على خطوط الإمداد بين مصراتة وطرابلس، بالإضافة لوجود الدعم المدخلي فيها مدعومًا من السعودية. أما قاعدة الوطية الجوية، والموجودة جنوب غربي طرابلس، فتمثل نقطة الانطلاق العسكري لقوات حفتر، كما أنها تربط بينها وبين قاعدة الجفرة التي يسيطر عليها حفتر أيضًا. ونشرت شبكات "سلفية" على الإنترنت، رسالة للشيخ ربيع مدخلي، شيخ ما يعرف بالتيار "المدخلي"، يحرّض فيها على قتال "الإخوان المسلمين" في ليبيا. حفتر حاكم متغلب..! المدخلي، الذي يقيم في المدينةالمنورة، فاجأ الجميع برسالته، لا سيّما أنها تأتي بعد عام ونصف من دعوته السلفيين في ليبيا أيضا، إلى اعتزال القتال مع أي طرف. وقال المدخلي إن "على السلفيين في ليبيا النصرة لدين الله تعالى وحمايته من الإخوان المسلمين وغيرهم"، وتابع: "الإخوان المسلمون أخطر الفِرق على الإسلام منذ قامت دعوة الإخوان المسلمين، وهم من أكذب الفرق بعد الروافض؛ عندهم وحدة أديان، ووحدة الوجود، وعندهم علمانية". وأضاف: "قامت لهم دول في عدد من البلدان، فلم يطبقوا الشريعة الإسلامية لا في العقيدة، ولا في الحاكمية التي يدندنون حولها منذ نشأت دعوتهم، ويكفرون الحكام الذين لا يُحَكِّمُونَها". كما هاجم المدخلي، المفتي الليبي الصادق الغرياني، قائلا إنه هدد بهجوم "الإخوان" على بنغازي، وأضاف: "هذا المعتز بسيد قطب والموجه للشباب إلى قراءة كتبه المليئة بالضلالات الكبرى، ومنها: طعنه في رسول الله وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام وفي بعض الصحابة الكرام، والقول بوحدة الوجود، وتعطيل الصفات". وأكمل قائلا: "هذا الغرياني يهدد بنغازي بالحرب، وهو لا يحاربها إلا من أجل محاربة السلفيين، فعلى السلفيين أن يلتفوا لصدِّ عدوان الإخوان المفلسين، ولا يُمكِّنوا الإخوان من بنغازي". وزعم المدخلي أن "الإخوان يلبسون لباس الإسلام وهم أشد على السلفيين من اليهود والنصارى، داعش تربت في إيران، وهم فصيل من فصائل الإخوان المسلمين، وهم أشد الأحزاب على السلفيين يكفرونهم ويقتلونهم". ويرى المدخلي أن حفتر حاكم متغلب وولي أمر شرعي لا يجوز الخروج عليه. وفي 15 فبراير 2018 قال مفتي ليبيا الصادق الغرياني -أثناء حديثه الأسبوعي في برنامج "الإسلام والحياة" الذي يبث على فضائية التناصح التابعة لدار الإفتاء الليبية- إن السعودية أرسلت إلى ليبيا سلفيين نصبوا حفتر وليا للأمر. أحيتهم الإمارات! وفي مارس 2017، وصف الغرياني المدخلي بأنه "آمر كتيبة عسكرية يصدر الأوامر بالقتال مع حفتر"، مع العلم أن زعيم التيار المدخلي كان قد اتهم في 6 يوليو 2016 الغرياني بأنه إخواني ويأخذ من سيد قطب مرجعا. وفي أبريل 2018 كتبت صحيفة "لبيراسيون" الفرنسية في مقال بعنوان "في خضم الفوضى الليبية.. كسب السلفيون الأرض"، تقول إن التيار المدخلي يعد خصما شرسا للإخوان المسلمين، وإن المداخلة "أحيتهم السعودية والإمارات ودعمتهم ليقوموا بهذا الدور في ليبيا". وكما كان تنظيم "داعش" صناعة استخباراتية، فالمداخلة والجامية كذلك لهم تنسيقاتهم مع الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، إذ كانوا يرفعون التقارير السرية الراصدة لأنشطة التيار الإسلامي إلى تلك الأجهزة، يحذرون فيها من خطورة تلك الجماعات، مع توصيات بالتصدي والمواجهة، وهذا الدور كان يلعبه المداخلة في ليبيا إبان حكم القذافي، الذي ضيق الخناق على الإسلاميين، وحظر أنشطتهم فاضطروا لممارستها في الخفاء، غير أنه رأى ضرورة مواجهة التيار الإسلامي بفكر مضاد، فاستفاد من المداخلة في تعبئة الجماهير ضد الجماعات الإسلامية حتى السلفية منها.