شهدت الانتخابات البرلمانية التى تدور رحاها الآن، وقائع غير مسبوقة، لكنها فى الوقت ذاته وضعت القوى الحزبية والبنية التشريعية، سواء المنظمة لعمل الأحزاب، أو الحاكمة للنظام الانتخابى وتطبيقاته فى موضع اختبار عملى. ومن المسلم به أن القوانين تنطلق من فلسفة تشريعية لتحقيق مستهدفات وطنية، ومن ثم تخضع لمراجعة وإصلاحات لعلاج ما يطرأ من مستجدات ومتغيرات وما يكشفه التطبيق العملى من ثغرات.
وفى اعتقادى أن انتخابات مجلس النواب التى لم يسدل ستارها بعد كشفت عن جملة من التحديات والثغرات، التى تتطلب إصلاحات وعلاجات عاجلة سياسية وحزبية وتشريعية، للحيلولة دون إعاقة الإصلاح والتحول الديمقراطى المنشود المعزز للقدرة الشاملة للدولة.
أول التحديات التى كشفتها الانتخابات، أمراض الحياة الحزبية، والتناقض الفاضح بين عدد الأحزاب وقدراتها الفعلية على الأرض، وما أسفر عنه من تراجع نسب المشاركة السياسية، مما يتطلب علاجات سريعة وجذرية.
ففى حين أن عدد الأحزاب فى مصر تجاوز 105 أحزاب، 60% منها على الأقل لم تخض المنافسة بمرشح واحد فى الانتخابات البرلمانية الجارية، فهناك 19 حزبًا فقط هى التى مثلها نواب فى برلمان 2015، وبرلمان 2020 بغرفتيه النواب والشيوخ، وقد لا يتجاوز عدد الأحزاب الممثلة فى البرلمان الجارى انتخابه ال18 حزبًا، بعضها بفضل تحالف 12 حزبًا فى القائمة الوطنية المطلقة.
كما أن بعض الدوائر الانتخابية، شهدت نسب مشاركة ضعيفة، أقلها الدائرة الأولى بالجيزة المقيد بها 700 ألف و143 ناخبًا، شارك فقط 12 ألفًا و434 ناخبًا، بينهم 1024 صوتًا باطلًا، وفق الحصر العددى المعلن من اللجنة العامة المشرفة على الانتخابات، هذا يعنى أنه إذا ما خلصت الهيئة الوطنية للانتخابات إلى فوز مرشح بحصوله على 50+1 من الأصوات الصحيحة، التى فى مجملها 1.7% من مجمل الأصوات المقيدة بالجداول، فإنه يفوز بنحو 1% من أصوات الناخبين المقيدين.
وفى دائرة المنتزه قسم أول الإسكندرية نسبة التصويت 3.5% فقط، فمن لهم حق التصويت وفق الجداول مليون و263 ألفًا، الذين صوتوا 35 ألفا و591 ناخبًا، منهم 33 ألفا و198 صوتا صحيحا.
وقطعًا هناك تباين فى نسب التصويت بين الدوائر حيث تزداد قوة المنافسة والمشاركة فى دوائر الصعيد والريف بالدلتا، لتصل فى بعضها إلى 25 و30%، وفى الدائرة الثانية بالوادى الجديد بلغت نسبة التصويت 37%، حيث صوت 42 ألفا من إجمالى 111 ألفا و789 ناخبًا لهم حق التصويت، وفق الحصر العددى المعلن.
لكن هذا لا ينفى وجود عدد ليس قليلا من الدوائر لم تتجاوز نسبة التصويت 18%، وهذا يستوجب دراسة بانتهاء إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات النتائج النهائية، لدراسة قضية المشاركة السياسية.
فالأصل فى فلسفة الانتخابات أن يختار العدد الأكبر من الشعب من يمثلهم فى البرلمان، ومن ثم تأتى التشريعات وما يثمره هذا التمثيل معبرًا عن الشعب عبر ممثليه، وتضعف فلسفة هذا التمثيل وأهدافه بضعف المشاركة.
الظاهرة الجديدة أيضًا فى الدوائر الثلاثين التى أعيدت الانتخابات بها تنفيذًا لأحكام المحكمة الإدارية العليا، حصول مرشحين على أقل من مائة صوت فقط، وهذا يشير إلى أن كثيرا منهم بلا وجود على الأرض.
مثلًا الدائرة الثانية بالوادى الجديد التى شهدت نسبة مشاركة 37%، بها أكثر من عشرة من المرشحين حصل كل منهم على أقل من 125 صوتًا، والبعض فى عدد من الدوائر أقل من مائة صوت، وهذا يعنى أن عددا ليس قليلا يخوض المنافسة بلا أرضية شعبية ولا خبرة سياسية، فعدد المتنافسين لا يعكس قدرة حقيقية.
بالعودة للبنية التشريعية المنظمة للحياة الحزبية، فإن الدستور المصرى فى المادة 74 نص على: «للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون، ولا يجوز مُباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفى أو جغرافى، أو ممارسة أى نشاط معادٍ لمبادئ الديمقراطية، أو سرى، أو عسكرى أو شبه عسكرى».
وهنا تستهدف الفلسفة الدستورية، إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية، بمجرد الإخطار، الذى نظمه القانون 40 لسنة 1977 بشأن الأحزاب السياسية، وتعديلاته الصادرة بمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2011، مع حظر تكوين أحزاب على أساس طائفى أو دينى أو عرقى أو جغرافى أو عسكرى أو شبه عسكرى.
أى أن المشرع الدستورى والشعب الذى أقر الدستور، يدركون أن الأحزاب السياسية الشرعية التى تعمل فى ضوء الدستور والقانون جزء من النظام السياسى، تسهم في استقرار الدولة، والتحول الديمقراطى، ولا يقتصر دورها على المنافسة على السلطة والشراكة بها، من خلال مقاعد نيابية بالسلطة التشريعية، أو حقائب وزارية بالحكومة، والسلطة التنفيذية، بل يمتد دورها إلى بناء الوعى وإعداد وتأهيل الكادر السياسى، وإثراء الحياة السياسية ببرامج وحلول للتحديات وحث الجماهير على المشاركة فى الاستحقاقات الديمقراطية.
ويبقى السؤال الكبير عن الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون للوقوف على طبيعة الثغرات والتحديات والعمل على علاجها.
الحقيقة أن الحياة الحزبية - ولاحظ مسمى الحياة- فالأصل فيها أن تكون خطة نشطة، متفاعلة، متنافسة، تنجب كوادر سياسية وتربيها وتدفع بها للمنافسة لا أن تعانى هزالا وضعفا شديدا.
ولعل الأسباب ترجع إلى انقلاب فلسفة النشأة، وبالعودة إلى القانون 40 لسنة 1977، لنقف على التعريف القانونى للحزب، فنجد ذلك فى نص المادة 2 والتى تنص على: «يقصد بالحزب السياسى كل جماعة منظمة تؤسس طبقًا لأحكام هذا القانون، وتقوم على مبادئ وأهداف مشتركة وتعمل بالوسائل السياسية الديمقراطية لتحقيق برنامج محددة يتعلق بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، وذلك عن طريق المشاركة فى مسئوليات الحكم».
إذًا الحزب جماعة منظمة، تقوم على مبادئ وأهداف مشتركة، أى ينبغى أن يكون هناك فئات من الشعب لها رؤية مشتركة ومطالب مشتركة، تقرر أن تتوحد فى حزب من أجل تحقيق برنامج محدد بالآليات القانونية والوسائل الديمقراطية، بينما الواقع أن هناك من يقول «تيجى نعمل حزب»، فيبحث عمن يصيغ له برنامجا ومن يجلب له الأعضاء، فتولد أحزاب ترتبط بأشخاص لا ببرامج وأهداف، وسرعان ما تتلاشى فاعليتها بسقوط المؤسس، وهذا النموذج كان واضحًا فى عدد من الأحزاب التى نشأت بعد عام 2011.
مثلًا.. حزب الدستور ارتبط بشخص الدكتور محمد البرادعى، والمصريين الأحرار باسم ساويرس، فإذا ما ذكر الحزب حينها قيل حزب فلان، وإذا ما انهار الشخص سياسيًا أو انسحب يتراجع الحزب.
فى تعريف الحزب فهو يتكون: «لتحقيق برامج محددة تتعلق بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، وذلك عن طريق المشاركة فى مسئوليات الحكم»، إذًا ماذا نفعل لتحفيز من يمارس دوره وندعمه، والتصدى للأحزاب الوهمية التى لا تتخطى كونها اسمًا بلا أى مشاركة؟
قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977، فى المادة 18 وضع عقوبة للأحزاب السياسية التى لا تنجح فى الحصول على مقاعد بالبرلمان فتنص على: «لا يتمتع الحزب الذى لا يحصل على عشرة مقاعد على الأقل فى مجلس الشعب فى أي انتخابات عامة لاحقة لتأسيسه بالمزايا المنصوص عليها فى المادة 13 من هذا القانون».
هذه المادة اشترطت الفوز بعشرة مقاعد بحد أدنى فى آخر انتخابات برلمانية، للحصول على المزايا المالية المتمثلة فى: «تعفى المقار والمنشآت المملوكة للحزب وأمواله من جميع الضرائب والرسوم العامة والمحلية»، وهو نص المادة 13 من ذات القانون.
إذًا المُشرع هنا منح مزايا مالية للأحزاب، بإعفاء مقارها وأنشطتها من الضرائب، وعاقب من لا يمارس العمل فعليًا، وجعل الشعب ممثلا فى الناخبين هم آلية قياس ذلك، من خلال ما يمنح لمرشحيه من ثقة، فالحزب الذى لا يحصد عشرة مقاعد على الأقل يحرم من ميزة الإعفاء الضريبى.
المادة 18 تلك ألغيت من القانون بموجب تعديلات القانون 12 لسنة 2011، وشهدت الحياة السياسية تضاعف عدد الأحزاب التى نشأت فوقية بلا قواعد جماهيرية، مجموعات أنشأت أحزابًا بسطوة المال أو استثمارًا للحظة وحالة السيولة السياسية، لتمضى السنوات وتمر الاستحقاقات دون منافسة لأغلبها ولو بمرشح واحد.
وهنا أطرح سؤالًا: هل يجوز أن تظل هذه الكيانات الحزبية، قائمة يتمتع قادتها بالمزايا المعنوية والإعفاءات الضريبة للمقرات دون نشاط فعلى؟
والسؤال الثانى: هل أمراض الحياة السياسية ناجمة عن بنيتها الداخلية فقط، أم البيئة الخارجية وتحديات عملها كما يذهب بعضها، أم بسبب الاثنين معًا، ومتى نتصدى بالعلاج الجذرى لصالح هذا الوطن الغالى الذى يحقق إنجازات فى العديد من المجالات بما يستوجب النهوض أيضًا بالحياة الحزبية والمشاركة السياسية جماهيريًا؟
وهنا أذهب إلى الواقع والقانون للبحث عن إجابات وطرح مقترحات، ففى الحقيقة إلغاء المادة 18 التى كانت تزيد الأحزاب الضعيفة ضعفًا بحرمانها من ميزة الإعفاء الضريبى حال العجز عن الفوز بعشرة مقاعد، عولجت بطريقة تسهم فى التحريض على الخمول الحزبى، وهنا أقترح الآتي:
أولًا: إصلاح تشريعى يستهدف تحفيز الأحزاب على المشاركة السياسية بفاعلية، ويخلص الحياة السياسية مما يمكن أن نسميه «الأحزاب الوهمية» بنصوص تشريعية تدعم من يمارس العمل الجاد ماليًا وسياسيًا، وحل الأحزاب الوهمية بقوة القانون.
-1 أقترح نص: «يُحل بقوة القانون كل حزب سياسى، لم ينافس فى آخر ثلاثة استحقاقات برلمانية تالية على صدور هذا القانون بخمسة مرشحين على الأقل، ولم يتمكن مرشحوه من الفوز بمقعد واحد على الأقل فى أى منها».
وهنا الفلسفة التشريعية: التحفيز على المشاركة فى التنافس بمرشحين لهم فرص حقيقية، لضمان بقاء الحزب بقوة القانون، ومن ثم ستتجه الأحزاب التى لا تملك استقطاب كوادر جاهزة تملك النفوذ أو المال إلى العمل الجاد على تنشئة وتربية كوادر سياسية حقيقية للدفع بها للمنافسة لتحقيق المستهدف.
-2 يشترط القانون 12 لسنة 2012 بشأن تعديلات القانون 40 لسنة 1977 فى المادة 11 التى تطرقت لموارد التمويل على: «يلتزم الحزب بإخطار الجهاز المركزى للمحاسبات بما تلقاه من تبرعات وبالبيانات الخاصة للمتبرعين، وذلك فى نهاية كل عام ولا تخصم قيمة التبرعات التى تقدم للأحزاب من وعاء أى ضريبة».
وهنا لم يحدد القانون عقوبات لمن يمتنع عن إخطار الجهاز المركزى للمحاسبات بمصادر تمويله، بل يجب أن نعود لصياغة نص قانونى يلزم كل حزب بنشر مصادر تمويله فى صحيفة واسعة الانتشار.
فما شهدته الانتخابات البرلمانية من محاولة عبث البعض عبر رشاوى انتخابية للتأثير على إرادة الناخبين يجب دراسته والتصدى له.
أ- التبرعات من أهم مصادر تمويل الأحزاب إلى جانب اشتراكات الأعضاء فى مختلف دول العالم، لكن ذلك يكون من الحزب وعبر قنوات شرعية ومعلنة للناخبين وتخضع لرقابة الجهات المعنية، لا أن يكون إنفاقًا من المرشح إلى الناخب مباشرة، وفى يوم الاقتراع أو سابق عليه بأسابيع بهدف التأثير على إرادة الناخب.
وهنا يجب صياغة إصلاحات تشريعية حاكمة، تتصدى لذلك وتنظم سير وشفافية مصادر تمويل الأحزاب وتشجع تنمية التمويل المشروع، بما يمكن الأحزاب من أداء دورها فى دعم جهود الدولة للإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى.
ويمكن من خلال ذلك تعديل النص التشريعى بالمادة رقم «11» من القانون 12 لسنة 2011، «تتكون موارد الحزب من اشتراكات وتبرعات أعضائه، والأشخاص الطبيعيين المصريين، وكذلك من حصيلة استثمار أمواله فى الأوجه غير التجارية التى يحددها نظامه الداخلى..».
وهنا يمكن أن تتضمن مصادر تمويل الأحزاب، إنشاء مشروعات تنموية تتسق وخطط الدولة للتنمية، كأن تخصص مساحات أراضي استصلاح زراعى بالصحراء للأحزاب، بتسهيلات تسهم فى تنفيذ الأحزاب وأعضائها مشروعات تنموية تحقق مستهدفات توسعة الرقعة التنموية، وخلق فرص عمل للشباب تشعرهم بدور تلك الأحزاب فى تقديم خدمات فعلية.
وكذلك تخصيص قطع أراض لإنشاء مشروعات صناعية مشروطة بأن تكون مملوكة عبر الحزب السياسى لأفراد مصريين ولا تقل الجمعية العمومية لمالكى المشروع عن ألف مواطن بنسب مساهمة لا تزيد على 10% للفرد و15% للأسرة الواحدة والأقارب من الدرجة الأولى.
وهنا نقدم حلولًا لفلسفة تشريعية، تستهدف تشجيع الأحزاب على الانخراط فى العمل الجماهيرى المعزز للتنمية، مع وضع ضوابط حاكمة تعزز ثقافة العمل الإنتاجى وتحظر التلاعب من قيادات الأحزاب للتربح قلة من التسهيلات الممنوحة.
وأقترح أن تضاف فقرة للمادة «11»
وتلتزم الدولة بمنح تسهيلات للأحزاب تتجاوز 25% خصما عما يمنح للشركات الخاصة، عند تخصيص أراض بهدف الاستصلاح الزراعى أو أرض مشروعات صناعية، وقروض ميسرة، شريطة أن تنشئ الأحزاب شركات مساهمة لكل مشروع لا يقل عدد المساهمين فى المشروع الواحد عن ألف مواطن، ولا تزيد حصة المساهم وعائلته من الدرجة الأولى عن 15% من المشروع».
ولقد أعطى القانون الحق للأحزاب فى إنشاء صحف، وألزم الأحزاب بإعلان برامجها وأهدافها، بل واشترط لصحة نشأة الحزب أن يكون برنامجه مختلفا عن الأحزاب القائمة ليقدم جديدا: «من الشروط تمايز برنامج الحزب عن برامج الأحزاب القائمة عند وقت الإخطار عن تأسيسه فى السياسات التى يعتمد عليها فى تحقيق أهدافه فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية».
فكم من أسماء الأحزاب يعلمها المواطن، وهل يعلم ما يميز كل حزب عن الآخر؟!
هذا تحدٍ آخر أسهم فى ضعف الأحزاب، وتآكل ظهيرها الشعبى إن كان لها ظهير، فمعظم تلك الأحزاب لا منابر إعلامية لها ولا تسعى لعرض برامجها، إن كانت تملك ما يميزها.
نحتاج بشكل عاجل لعلاج الأمراض الداخلية للأحزاب، وضمان وجود لوائح منظمة، وتشكيلات ديمقراطية فعلية، وفق القانون، حتى تكون تلك الأحزاب مؤهلة للمشاركة فى إصلاح الحياة السياسية والديمقراطية لأن إصلاح الحياة الحزبية ضرورة حتمية. حفظ الله مصر