يصطفون حول منضدة صغيرة تكشف عن أطباقٍ حوت أشياءً عشقتها أعينهم، لم تمنعهم حدة تلك الأطعمة من التقدم نحوها والتهامها بشراهة وكأنهم يتناولون أنواع أكلٍ لن تجود الدنيا بأشهى منها، يتجاذبون أطراف الحديث الذي تطغى عليه كلمات الثناء على "الجبنة القديمة" التي تحلو إلى جانب الفطير المحلى بالعسل، فما هي إلا لحظات قليلة حتى تفرغ الأطباق الممتلئة وتتحول إلى سراب، فيمضي الجميع إلى حال سبيله.. ذلك هو حال كل بيت مصريٍ استقبل وافدًا من "بلاد الأرياف" أتى محملًا بما لذ وطاب من خيرات، مبشرًا أهله بأمسية معتبرة في حب "المش والجبنة القديمة"، ذلك ما دفع "الحاجة أم أحمد"، أن تكون مندوبة "ريف الخير" في قاهرة المعز، فتقف شامخة أمام نصبتها التي اقامتها بسوق "أرض اللواء"، لتحقق أحلام "الغلابة" في كسرة خبز يغمسونها في "طبق مش أو جبنة قديمة". تروي "أم أحمد"، ل"الوطن"، حكايتها مع بيع "المش" التي بدأت منذ 22 عامًا، فما إن دقت الساعة تمام السابعة صباحًا حتى حضرت السيدة إلى مكان نصبتها، "زمان كانت الدنيا أحسن من دلوقتي بكتير، الحاجات كانت رخيصة والناس كانت بتشتري مننا وهي مش تعبانة، كنت ببيع كيلو الجبنة البيضا ب6 جنيه، والمش كان لما يغلى أوي يوصل 12 جنيه"، بحسب "أم أحمد". رحلة شقائها تستمر ليل نهار، تقضي ساعات الصباح كاملة مع زبائنها الذين تسعد بابتهاجهم لوجودها، وتقضي بقية اليوم في إعداد أدواتها البسيطة التي تسترزق منها، فإما أن تغزل كميات "الجبنة البيضة" التي تشتريها كل أسبوع، أو تسافر إلى بلدٍ ريفي لشراء "الجبنة القديمة والقريش" من تجارٍ تتعامل معهم، "البيض بقا أنا بجيبه شكك من بياعين معارفنا وبرد فلوسه بعد ما أبيع بضاعتي". لم تعبأ السيدة الستينية بأنباء إن تبد لغيرها تسؤهم، فلا يعنيها فرض ضرائب أو تكاليف إضافية على عربتها، فحسابات "المكسب والخسارة" غابت عن منطقها الذي لم يأخذ غير "الستر" عنوانًا، "أنا بشتري في الأسبوع 100 أو 200 كيلو جبنة بيضا، واللي ربنا بيقدرني عليه من الجبنة القديمة والقريش، وسيباها على الله وما بحسبش بكسب كام ولا بخسر كام، عشان لو حسبتها لا هشتغل ولا هعمل أي حاجة". "المش ما عادش أكل الغلابة"، كلمات تخرج من فم الحاجة "أم أحمد"، ينتابها الحسرة وهي تتحدث عن أسعار سلعٍ باتت عزيزة المنال، "دلوقتي اللي بيقبض 1000 جنيه يا دوبك يكفي عياله وبيته جبنة قريش طول الشهر، دلوقتي بقا كيلو الجبنة البيضة ب12 جنيه، وبقيت أبيع كيلو المش ب25 جنيه، وحتى الكِشك اللي كان ب6 جنيه بقيت أبيع الكيلو ب20 جنيه، عشان كده لو زبون معهوش ولا أنا ليا عنده فلوس بسيبه". "ربنا يطول في عمره ويصلح حاله، ويحس بينا"، كلمات بسيطة حوتها رسالة "أم أحمد" للرئيس عبدالفتاح السيسي، إلا أن رسالتها لأبناء شعبها كانت أشد وطأة، "المشكلة مش في ريس حلو ولا وحش، إحنا مننا فينا بقينا وحشين، يا ريت الناس اللي معاهم ملايين يرأفوا بالغلابة، والناس التانية تبطل مظاهرات وتشوف الكويس وتعمله، عشان ظروف بلدنا تنصلح بدل ما بقا حالنا كرب".