تجديد الخطاب الديني، الذي تدعو إليه مؤسسة الرئاسة في مصر اليوم، طوق نجاة للدين والمصريين، من طوفان الجهل والتعصب والإرهاب، الذي اجتاح البلاد عبر العقود الأخيرة. ولكن يجب أن نعلم أن طرحنا لهذه القضية، يفرض سؤلاً ملحاً، هو: لماذا فشل خطاب التنوير في بلادنا، في إحداث تغيير يذكر في بنية الفكر والمجتمعات العربية، عبر قرنين من الزمان، لنعود اليوم إلى طرح نفس القضايا والإشكاليات التي طرحها رواد التنوير الأوائل، وعلى رأسها قضية التراث والتجديد، وتطوير الفكر والخطاب الديني؟ وفي واقع الأمر، فقد تعددت الكتابات التي تناولت محنة التنوير في عالمنا العربي وأسباب فشله، وأرجعتها في مجملها إلى خلل في بنية خطابات التنوير، وعدم أصالتها، واستعارتها للمفاهيم الغربية؛ ففي كتابه التنوير الزائف، يرفض الدكتور جلال أمين، فكرة التحديث من خلال تقليد الغرب، ويُعيب على رواد التنوير العرب تبنيهم لشعارات التنوير الغربي، فعادوا ما عاده التنويريون الغربيون، حتى رأينا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في مصر، كتابات تسير في طريق معاداة الدين والاستهانة به، وتتناول المقدسات بالنقد والتجريح، بهدف ضمان احتفاء الأعلام والمؤسسات الغربية بها. ويرى الدكتور حسن حنفي، أن رواد النهضة الأوائل، رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأحمد فارس الشدياق، وعثمان أمين، لم ينقلوا كتابات فلاسفة التنوير الغربيين من أجل الترويج لثقافة الآخر، بل أعادوا بناءه لصالحهم، وبرهنوا عليه من تراثهم الخاص. ولكن أتبع هؤلاء جيل من التنويريين العرب، نقل فلاسفة التنوير الغربيين بلا هدف واضح، وبدون الدعوة إلى إعادة بناء تراثنا القديم، وكأن جذور نهضتنا يمكن أن ترتد إلى تراث الغرب. وكرد فعل على هذا التنوير المغلوط قام الواقع ممثل في التيارات الدينية الأصولية برفضها جميعاً، وعاد إلى التراث القدم يحاول إحيائه بلا تنوير. أما الراحل الدكتور محمد عابد الجابري فقد رأى أن قادة التنوير العرب قد تبنوا مقولات فلاسفة التنوير الغربي في أوربا، وحاول زرعها في العالم العربي، مع أن التنوير يجب أن يتم من الداخل، أما ما يأتي من الخارج، فلا معنى له إلا لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى داخل هذا الخارج. ولهذا فهو يعتقد أن التنوير يبدأ من الداخل، بإعادة بناء التراث القديم، وبفتح المجال لإعمال العقل فيه، وإزالة السلطات التي تقيده. وإجمالاً يمكن القول، إن هناك رؤية تكتسب وجاهتها من الواقع تؤكد أن خطاب التنوير العربي قد فشل، وأن من أهم أسباب فشله، عجز أصحابه عن التعامل الإيجابي مع التراث، فأحدثوا قطيعة شبه كاملة معه، وكان الأجدر بهم أن يعيدوا تجديد هذا التراث ليتناسب مع مقتضيات العصر. وكذلك عدم احترام رموز التنوير المتأخرين لثوابت الأمة، وسعيهم المستمر للتشكيك فيها والسخرية منها وتقويضها، مما أثار عليهم عداوة الجماهير. ولهذا فقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم لظهور خطاب تنويري جديد، يتسم أصحابه بالواقعية والفهم العميق لخصوصية المجتمعات العربية، تكون مهامه الأساسية؛ مراجعة خطابات التنوير السابقة، لمعرفة جوانب القصور فيها ونقدها، ومعرفة جوانبها الايجابية غير القابلة للنقد، واستكمال البناء عليها. نقد وتجديد التراث والخطاب الديني، مع احترام ثوابت الدين التي يجب أن تظل فوق النقد، ناهيك عن التطاول والتجريح. مد جسور التواصل مع السلطة والجماهير، لضمان دعم السلطة الحاكمة للخطاب، وتبنيها لأفكاره، واستخدام مؤسسات الدولة في وضعها موضع التنفيذ، أو دعم الجماهير العريضة لخطاب التنوير وصاحبه، والضغط على السلطة لتبني وتفعيل هذا الخطاب، بما يضمن تحويل خطاب التنوير إلى مشروع تنوير يُؤتي ثماره في أرض الواقع، ويحول دون أن تظل خطابات التنوير العربية خطابات نظرية، تحرث في الماء وتزرع في الرمال.