في صالونه الشهري الأخير، الذي عقد بقصر التذوق بمدينة الإسكندرية، تحت عنوان " خرافة العلمانية وأسطورة الدولة الدينية"، أثار الأستاذ الدكتور يوسف زيدان مجموعة من القضايا الدينية والسياسية والفكرية المهمة، الوثيقة الصلة بمجريات الأحداث وتطورها في مصر بعد الثورة. ولعل من أبرز الملاحظات التي لفت الانتباه إليها، أن الحديث الآن عن مفاهيم مثل العلمانية والدولة الدينية، لم يعد أمراً نظرياً، يقتصر على المشتغلين بالأبحاث والدراسات الفكرية، ولا يحمل أي إمكانية للتطبيق في الواقع؛ بل إنه قد أصبح وثيق الصلة بالإنسان العادي، بعد أن كثر تناول هذه المفاهيم في وسائل الإعلام بعد الثورة، نتيجة للظهور القوي للتيارات الدينية في الواقع السياسي المصري، ودعوتهم إلى قيام دولة دينية، وإعادة الخلافة الإسلامية، ورد الفعل الذي أثاره ذلك لدى بعض أصحاب الاتجاهات الفكرية المنادية بالدولة المدنية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة. وقد انتهى الدكتور يوسف زيدان، بعد أن قام بتحرير وضبط مصطلح العلمانية، وتتبع نشأته في سياقه الخاص في الحضارة الغربية، إلى أن المناداة بتطبيق العلمانية في العلم العربي، هو حديث خرافة؛ لأن الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة، وأن الحضارة الإسلامية، لم تعرف صداماً بين العلم والدين. وفيما يتعلق بمصطلح الدولة الدينية، التي تنادي بها بعض الاتجاهات الإسلامية اليوم، ذكر أنه مصطلح لا تاريخي، يدخل في باب الأسطورة؛ لأن التاريخ السياسي للدولة الإسلامية، لم يعرف نظاماً، كان الحكم فيه للرجال الدين، وقد كان الخليفة قائداً سياسياً في المقام الأول، وكانت شئون الحكم والدولة، تدار من جهة أهل الاختصاص. وفي محاولة منه للابتعاد عن أسلوب القطع والإطاحة بالرؤى المغايرة، والاكتفاء بنقدها أو التشكيك في صلاحيتها، دعا في نهاية محاضرته، للحوار بين أصحاب هذه الدعوات الفكرية المتعارضة، وأكد على ضرورة تقبلها بوصفها تجليات للذات، لا يمكن لأحدهما أن يُقصي الأخر، أو يتجاهل وجوده. وهنا نتوقف عن سرد آراء الدكتور يوسف زيدان، لننطلق منها لتوضيح وجهة نظرنا الخاصة في هذه القضية الحيوية الشائكة، ولتكن نقطة البدء بالنسبة لنا، هي النقطة التي انتهت عندها آراءه، والمتعلقة بكون هذه الدعوات الفكرية المتعارضة تجليات للذات، لا يمكن لأحدهما أن يُقصي الأخر، أو يتجاهل وجوده. فحكم الدكتور يوسف زيدان يندرج تحت باب حكم الوجود، من حيث أن هذه الدعوات، هي واقع فعلي موجود لا يمكن إنكاره، أما من حيث حكم القيمة، فيمكن القول - انطلاقاً من رأي الدكتور يوسف زيدان حول خرافة العلمانية وأسطورة الدولة الدينية- إن هذه الدعوات الفكرية، هي تجليات زائفة للذات، لابد من كشفها وتجاوزها لكي تظهر الذات في صورتها النقية، وتسعى لتوظف وتُفعيل إمكانياتها الحقيقة، في محاولة منها لاستعادة وجودها التاريخي والحضاري. فقد أصبح في حكم المؤكد اليوم، نكوص وتهافت بنية الأفكار التي تشكل الخطاب النظري لأصحاب الاتجاهات العلمانية ولأصحاب الاتجاهات السلفية الدينية على السواء، وعدم امتلاكها لآليات التفعيل في الواقع، وبالتالي التحول من إطار الخطاب النظري ومن وجودها كفكرة إلى مشروع حضاري متحقق على أرض الواقع. فهل نحن في عالمنا العربي اليوم، في حاجة إلى عصر تنوير جديد، تفرز مجتمعاتنا من خلاله نموذجها الحضاري و التحديثي الخاص؟ أعتقد أن هذا السؤال أصبح ملحاً اليوم بعد ما تردد عن فشل المشروع الحداثي والتنويري العربي في إحداث تغيير في بنية الفكر والمجتمعات العربية، وافتقاده التام للمؤيدين والمُفعلين، وهو ما أكدته في السنوات الأخيرة الكثير من الكتابات التي تناولت محنة مشروع التنوير العربي على المفهوم الغربي. ومن هنا، أصبحت الحاجة ملحة لظهور تيار تنويري جديد، يتسم أصحابه بالواقعية والاتزان في محاولتهم لتحديث المجتمعات العربية، ولعل أهم ملامح المشروع الفكري أن أصحابه يتمسكون بالعقلانية وبامتلاك الرؤية الفلسفية و النظرة والنقدية، والوعي السياسي والتاريخي. بالإضافة إلى احترام الدين وثوابته؛ لآن الدين والإحساس بالإلوهية في الكون هما حاجة روحية ضرورية ، وهما جوهر إنسانية الإنسان وأثمن ممتلكاته ، فالدين حق ، ومكمن الداء لا يمكن أن يكون في الدين ذاته ؛ بل في بعض أشكال الفهم الخاطئ للدين. ولكن التنويريين الجدد لأبد أن يدركوا جيداً أن الدين مقوم أساسي من مقومات هذه الأمة ، وأن عودة الناس إليه هي وجه من وجوه الواقع لا ينكره إلا غافل، وبالتالي فإن أصحاب المشاريع الفكرية التي تعادي الدين أو تهمشه ضمن منظومتها الفكرية ، هم قوم يحرثون في الماء ويزرعون في رمال صحراء جرداء ، ولن تؤثر مشاريعهم إلا في نخبة محدودة عدداً وعدة . التنويريون الجدد لأبد لهم أن يدركوا أن للأمة ثوابتها التي يجب أن تظل فوق كل شكل من أشكال النقد ، ناهيك عن التطاول والتجريح . وقد أصبحوا على يقين من أن الإلحاد والتجاوز في مخاطبة الذات الإلهية، والتطاول على المقدسات كان موضة في مرحلة زمانية ماضية ، وموجة ركبها العديد من المثقفين ، إلا أنه لم يعد كذلك ، ولم يعد من المجدِ أيضاً أن يقضي المثقف التنويري الجديد عمره في خصومة مع الله . التنويريون الجدد يقع على عاتقهم إجراء مصالحة بين الإيماني والعقلاني؛ فلا مستقبل لعقل يعادي الإيمان ، ولا لإيمان يعادي العقل. بل إن المستقبل هو " للعقل المؤمن " الذي ينطلق من يقين ونور إيمانه بالله ليوجه سهام نقده لكل قوى الشر من البشر والدول الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله ، وأخذوا على عاتقهم أن يصير الحق باطلاً والباطل حقا. في النهاية، فإن التنويريين الجدد هدفهم الأساسي هو إحداث تغيير في بنية العقل المسلم المعاصر ومنطلقات تفكيره، مع الحرص الشديد من جانبهم من الوقوع في فخ الإفراط أو التفريط. ويظل السؤال الجوهري: هل ينجح التنويريون الجدد في الاستجابة لهذا التحدي المفروض علينا اليوم، من أجل إعادة اكتشاف ما في الإسلام من طاقات روحية وحضارية، والموائمة بينه وبين العقل والعصر؟ وهل ستتاح لهم الظروف الملائمة للقيام بهذا الدور؟.