داهمتنا فجأة أحاديث مصالحات مسمومة تفتق عنها ذهن البعض، وأخذ الأوركسترا المعروف يعزف نغماتها النشاز بغير حياء أو أدنى غيرة على مصلحة الوطن، وترددت الأصداء خارج مصر فى دوائر معروفة تشير إلى أن مصر قد أُنهكت فى حربها على الإرهاب وأنها باتت فى حاجة ملحة إلى مصالحة داخلية مع الإخوان المسلمين وخارجية مع قطروتركيا، وإلا فإنه لن يكون بمقدورها أن تحقق ما يصبو إليه شعبها وما تطمح إليه من دور إقليمى جديد. ولى على هذه الأفكار المسمومة عدد من الملاحظات أرجو أن يتسع حيز هذا المقال لها، وأولى هذه الملاحظات تتعلق بالتوقيت المريب الذى أُطلقت فيه هذه الأفكار، إذ لا يخفى أنها حلت بنا فى وقت تصاعد ظاهر لعمليات التفجير الإرهابية التى تطول البشر والمنشآت والممتلكات، وبالتالى فإن أى استجابة لهذه الأفكار لن تعنى سوى رفع الرايات البيضاء والتلويح بها للإرهابيين، أما المضمون فقد كان للأمانة شاملاً كلاً من المصالحة مع الإخوان فى الداخل وقطروتركيا فى الخارج، ولمَ لا والشواهد أكثر من واضحة؟ فالسيسى استقبل وفداً من القيادات الإخوانية المنشقة مع أن أعضاء الوفد قد أكدوا أن هذا الملف لم يُفتح معه، وقد صرّح فى حديث له بأنه اعتذر لأمير قطر عن السباب الذى وُجه لوالدته مع أن الاعتذار قديم ومتحضر لأن مصر لا تنزلق إلى هذه الصغائر فى خلافاتها السياسية، كما أن تزامن زيارتى السيسى وأردوغان للرياض يدل على أن أفكار المصالحة قد وضعت أقدامها على بداية الطريق، مع أن السيسى لم يرَ وجه أردوغان أثناء زيارته السعودية. مصر إذن، وفقاً لهؤلاء، على استعداد لأن تبيع دماء أبنائها وتبتلع إهانة كرامتها بوساطة سعودية، ولماذا سعودية بالذات؟ لأن السعودية ثابت إلى رشدها وصححت موقفها من الإخوان وتجاه تركيا بعد رحيل الملك عبدالله وبتوجيهات أمريكية، والتلميح واضح إلى أن السعودية بالذات هى التى تستطيع أن تفعلها لأن مصر سوف تضيع بغير مساعداتها، وليسامحهم الله على هذه الأفكار الضالة التى تكشف غياب الإحساس بالانتماء للوطن واتهاماً ضمنياً للسعودية بأنها تعمل وفق ضغوط أمريكية، وليطمئن هؤلاء بغض النظر عن فساد حساباتهم إلى أن مصر على مدار نضالها المعاصر، بل على مدار تاريخها كله، قد تحملت فوق طاقتها بكثير. وأزعم أنها مرت بمواقف أشد مما هى فيه الآن لكنها لم تفرط يوماً، ولنتصور بشاعة الوهم بأن مصر، وقائدها الذى يمثلها، على استعداد لأن تتجرع إهانات رئيس تركيا المغرور الذى باتت أحلامه تهيئ له أنه استعاد لقب السلطان العثمانى. والحقيقة أن الكارثة لم تكن فيما تقدم به أصحاب هذه الأفكار فحسب وإنما فى فئة من الكتّاب والإعلاميين والأكاديميين تعاملت مع هذه الأفكار بكلمات خشبية تتحدث عن مضمونها وأسباب ظهورها واحتمالات نجاحها دون أن تلتفت، ولو لحظة، إلى مضمونها المسموم ومعناها الرخيص بالنسبة لمصر وكرامتها ومستقبلها، وكأننا يمكن أن نكون محايدين فى مواقف تتعلق بمصير الوطن. يتذرع أصحاب الأفكار المريضة بأن الإخوان المسلمين ليسوا هم مصدر ما تعانى منه مصر من إرهاب، ولا يستحق منا هؤلاء إلا التجاهل لأن هذه الحجة السخيفة سقطت منذ زمن حين ربط أحد كبرائهم بين توقف الإرهاب فى سيناء وبين عودة مرسى، بل ومنذ شهد تاريخهم بأنهم ما ترددوا يوماً فى القتل والتخريب من أجل تحقيق أهدافهم، وحتى إذا ادعوا بأنهم إنما كانوا يدفعون بذلك ظلماً وقع عليهم فى عهد أو آخر فإن عديداً من الفصائل غيرهم تعرضوا للظلم نفسه ولم يوظفوا العنف فى نضالهم السياسى، ولهم فى حركة اليسار المصرى أسوة حسنة لو كانوا يعقلون، بل إن الذى أوقعوه هم بأقباط مصر وبالذات بعد أحداث رابعة لم يقابل منهم إلا بالتمسك بوطنهم، فلعل الإخوان يتخذونهم قدوة فى موقفهم من الوطن الذى يبدو أحياناً أنهم لا يعيرونه أدنى التفات. كذلك سقطت الحجة بشعارات رابعة وصور مرسى التى تلازم المتفجرات وأدواتها عندما يداهم الأمن أوكار الإرهاب، وسقطت أخيراً وليس آخراً بعلاقة الشجرة بفروعها التى تربطهم بالتنظيمات التى وُلدت من رحمهم وتجاوزتهم فى الإمعان فى القتل والتخريب. إن مصر تحارب الإرهاب وليس الإخوان، فإذا أراد الإخوان سلاماً فليخرجوا من صفوف الإرهابيين وليقدموا كأفراد على التفاعل مع الحياة فى وطنهم بما فى ذلك الحياة السياسية التى ستفتح لهم أبوابها على مصراعيها طالما أنهم تخلصوا من ربقة الإرهاب، أما أن يتصور أحد أن القوى السياسية المصرية ستعيد الكرّة وتسمح مجدداً بأحزاب دينية مهما كانت المبررات فإن هذا هو الوهم بعينه. وأعلم تمام العلم أن صفوف الإخوان تضم الكثيرين من المخلصين للوطن الرافضين لما ترتكبه قياداتهم القابلين للانخراط فى الحياة السياسية كأى مواطن صالح وليس من خلال حزب سياسى، وعلى الدولة أن تفتح أبوابها لهؤلاء عندما يقررون أخذ زمام المبادرة. لقد صرح الرئيس السيسى عندما سئل مؤخراً فى السياق الزمنى لطرح تلك الأفكار المرفوضة جملة وتفصيلاً عن مستقبل الإخوان المسلمين بما معناه أن القرار فى هذا الشأن للشعب، وهو قول صحيح لكننى تمنيت عليه، وما زلت، أن تكون إجابته أن الشعب قد اتخذ قراره وقُضى الأمر بعد أن خاض تجربته المريرة معهم، ولا ننسى أن مقوماً رئيسياً من مقومات شرعية السيسى حتى قبل أن يصبح رئيساً أن الشعب قد استجاب لندائه الشهير وأعطاه التفويض الذى طلبه لمواجهة الإرهاب والعنف المحتمل والآن أصبح الاحتمال واقعاً بغيضاً، وما زال التفويض مستمراً.