من الواضح أن «داعش» وما يسببه من أخطار سوف يستمر لفترة، ربما تطول، بأكثر مما نتوقع، خاصة أنه يتمدد خارج دولتى المنشأ، العراق وسوريا، ليصل إلى ليبيا وتونس ومالى ونيجيريا والصومال.. إلخ. هناك بالطبع عوامل أو عناصر تغذيه وتعمل على تفاقمه، بعضها مرتبط بأشخاص «داعش» أنفسهم، من حيث تكوينهم النفسى والعقلى والوجدانى، فضلاً عن تجاربهم الخاصة وبيئاتهم التى نزحوا منها.. وبعضها الثانى متعلق بالأزمات السياسية التى تعانيها أوطاننا والتى تؤدى إلى ضعف وعجز وشلل هذه الأوطان، على سبيل المثال العراق وسوريا وليبيا.. وبعضها الثالث متصل بالمشروع الأمريكى/ الصهيونى، أو المشروع الإيرانى الشيعى، أو المشروع التركى، أو بها جميعاً، حيث تعمل على مزيد من إشعال النزاعات الحدودية، وإيقاد الفتن الطائفية، وإيقاظ الصراعات المذهبية، وما يجره ذلك كله من أعمال عنف وإرهاب وبرك دماء، الأمر الذى يؤدى فى النهاية إلى ازدياد حدة وشدة التفتت والتشرذم لدول المنطقة. دعونا نقول فى البداية إننا أمام أشخاص مرضى نفسياً وذهنياً وأخلاقياً.. والمتأمل فى السير الذاتية لهؤلاء يرى أنهم يعكسون تجارب سيئة، غير طبيعية، وغير سوية، كما يعبرون عن بيئات رديئة وغير صحية.. المقبلون من البلاد العربية أو الأفريقية يمثلون فى الغالب الأعم بيئات يسودها الاستبداد والفساد، وغياب دولة القانون، وانسداد طرق التغيير والإصلاح بالشكل السلمى، فضلاً عن المشكلات الحياتية كالبطالة والارتفاع الجنونى فى الأسعار.. إلخ، وبالتالى انعدام الأمل.. المقبلون من أوروبا أو أمريكا يعانون من مشكلات خاصة، فهذه البلدان، برغم تقدمها المادى والتقنى، فإنها فقيرة فى أشياء كثيرة.. منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية فى حالة احتضار، أو أصابها شلل أو عجز.. المثل العليا غائبة، والقدوة غير موجودة، والدفء والحنان الأسرى مفقودان تماماً.. الحياة المادية تصبغ كل شىء، العلاقات الأسرية، والأخوية، والصداقة.. إلخ. العلاقة مع الله فيها غربة ووحشة، فكل يعبد إلهاً خاصاً به وعلى طريقته.. الشباب (فتياناً وفتيات) يعانون من فراغ عاطفى ونفسى ووجدانى.. نفوسهم يغمرها اليأس، وحياتهم يملأها الشقاء والتعاسة، ولم يعرف الاستقرار النفسى طريقاً إلى قلوبهم.. إن قلة العلم، وسطحية الفكر، وضحالة الفقه، هو ما يميز الدواعش، فهؤلاء لم يتعلموا على يد علماء ثقات.. ظهروا فى الزمن الذى نعانى فيه من فوضى، فالكل يفتى، والكل يتكلم فى الإسلام، لكن المشكلة الكبرى أن هؤلاء يمتلكون السلاح ويسعون لفرض أفكارهم وآرائهم باستخدامه.. لقد تعلمنا من شيوخنا القدامى أن هذا الدين ليس حكراً على أحد، لكنه ليس نهباً لكل أحد.. حتى الذين لديهم شىء من ذلك، يتعاملون مع النصوص، قرآناً وسنة، بشكل انتقائى بحيث يوافق أهواءهم وأغراضهم، وهو ما يفقد التعامل موضوعيته وحياديته وإنصافه.. لكن، لا بد أن نعترف بأن كتب التراث حافلة بأمور تحتاج فعلاً إلى مراجعة وإعادة نظر.. بعضها يتطلب تنقية مما علق به من شوائب، وبعضها الثانى يستلزم تغييراً فى الفهم حتى يلائم مستجدات العصر ومتغيراته.. إضافة إلى أننا فى أمس الحاجة إلى ثورة فى الاجتهاد الذى يعانى من تراجع خلال القرون الفائتة. غنى عن البيان أن الدواعش يستمدون قوتهم من ستة مصادر؛ أولها: السلاح الذى تم الاستيلاء عليه من جيوش الأوطان التى يتبعونها، كما حدث فى العراق وليبيا، علاوة على ما يصلهم من مدد وعون من الخارج (أمريكا، تركيا، وقطر)، ثانيها: الثروات التى استولوا عليها ونهبوها، كالبترول والآثار، والإتاوات التى يفرضونها، ثالثها: ضعف الجيوش أو الميليشيات التى يواجهونها، وترك مواقعها وفرارها من أمامهم، رابعها: الخوف والذعر والرعب الذى يبثونه عن طريق شرائط الفيديو ذات الجودة والتقنية العالية لعمليات الحرق، والقتل، والذبح، والاستعراضات التى يقومون بها، وللأسف تسهم القنوات الفضائية فى ذلك، خامسها: الأزمات السياسية فى الأوطان الموجود بها داعش، مثل العراق وسوريا وليبيا، وسادسها: الآمال والأحلام التى تداعب خيال الشباب فى «الجهاد» لتأسيس وتمكين دولة إسلامية كبرى (خلافة) ينعمون فيها بتطبيق الشريعة، وسيادة العدل، فضلاً عن نيل الشهادة، وهو ما يساعد على نزوح الآلاف من أوطانهم للحاق بالتنظيم. إن «داعش» لا يهدد المصالح الأمريكية فى المنطقة، ولا يوجه رصاصة واحدة للعدو الصهيونى، مما يدل دلالة قاطعة على أنه يخدم، بل يمثل إحدى الأذرع المهمة فى تنفيذ مشروعهما فى المنطقة.. لذا، فالتحالف الدولى بقيادة أمريكا لا يريد ولا يسعى للقضاء على داعش، وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو «قصقصة» أطرافه أو بعض أطرافه، من باب ذر الرماد فى العيون من ناحية، وحتى لا يقوى إلى الحد الذى يصعب السيطرة عليه من ناحية أخرى.. لقد استباح «داعش» دم الآلاف فى العراق وسوريا، واستباح الأيزيديين بالعراق، ومنذ أيام قام بحرق الطيار الأردنى «معاذ الكساسبة» وذبح 21 قبطياً مصرياً فى ليبيا، ويستعد لذبح أو حرق نفس العدد من البشمرجة، واليوم يخطف حوالى 100 من المسيحيين الآشوريين.. فماذا بعد؟! إن مصر قادرة بإذن الله على مواجهة الإرهاب الذى يقع داخلها، وذلك من خلال استراتيجية كاملة وشاملة، لكن ما يحدث على مستوى المنطقة هو خارج قدرات مصر بمفردها.. وحتى لو افترضنا جدلاً توافر الإرادة السياسية لدى جامعة الدول العربية فى تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك لمواجهة الإرهاب، فسوف تقف أمريكا حائلاً دون ذلك، ولا داعى لأن نضحك على أنفسنا.. وما لم تستشعر أمريكا أن مصالحها فى المنطقة مهددة، فلن تتراجع عن مواقفها، فهل من الممكن أن يكون لنا دور سياسى وديبلوماسى وإعلامى داخل الكونجرس وعلى مستوى الشعب الأمريكى فى هذا الاتجاه؟!