وكانت «مارغو»، برغم كل هذا العنفوان والثورة الطائشة، هشة ضعيفة، فأصر «عزيز» على حمايتها من العالم ومن نفسها، حتى إنه يقول إنه لم يكن متأكداً أكانت تحبه بقدر حبه لها أم لا، ولكنه، وعلى حد تعبيره، كان متأكداً أنها تحبه بطريقتها الأنانية التى تتسم بالتدمير الذاتى. ورسالتى: للحب طرق وأنواع وتعابير عدة وتصرفات شتى، وللمحبين خصال وأفعال وغريب الانفعال، فنحن عندما نقع فى الحب فى الأغلب ننجذب لمن لا يشبهوننا أبداً فنرى ذا المشاعر الفياضة والمتوهجة يهوى ذاك الهادئ الرزين المتعقل وتذيبه منه نظرة عابرة، ربما لم يقصدها بالأساس، وترى ذاك الرزين القابع فى ركنه البارد الجاف ذى اللون الأزرق ينجذب لجنون عاشق يكاد لا يلمس الأرض بأقدامه من فرط طاقته ونزقه وعبثه، وهذا حال «عزيز» الذى فُتن ب«مارجو» المغامرة المقامرة وأحياناً كثيراً المستهترة. وتزوجا واستقرا بأمستردام، وكانت «مارجو» تُعنى بشئون اللاجئين المقبلين إلى هولندا وتتفانى فى رعايتهم، أما «عزيز» فانصرف اهتمامه إلى التخرج فى كلية إدارة الأعمال وعمل بعدها فى شركة دولية، وكان حريصاً على الترقى فى عمله والنجاح فيه، وقد كان، وأحرز بعض النجاحات التى نعتها بالتافهة. ومع أن «مارجو» كانت مفعمة بالصحة والحيوية باعتبارها نباتية رشيقة معتنية بنفسها لم تتعاطَ الأدوية يوماً، فإن الموت عاجلها شابة فى مقتبل العمر واختفت فجأة وللأبد من بين ذراعى «عزيز» المتيم بها واليتيم من دونها. ماتت فجأة ميتة هادئة غريبة، فقد صدمتها شاحنة ليلاً، هكذا ببساطة دون ضجة، دون مغامرات، دون صخب. ومن حينها تحول «عزيز» من محب عاشق إلى حيوان حبيس، فقد انهزم «عزيز» وانهدم تماماً، فصادق المدمنين وتشرد وأهمل عمله حتى إنه حاول الانتحار مرتين وفشل فى عمله، بل إنه تعاطى جميع أنواع المخدرات، وكان يصحو يومياً فيجد نفسه فى مكان ما بصحبة أحد ما، وأحياناً على أسرّة نساء لا يعرفهن. باختصار، أصبح حطام إنسان، صار شاحباً هزيلاً بلا أمل، بلا غد، بلا قلب، بلا هدف، وقد أطلق على هذه الفترة الحرف «ص» فى كلمة صوفى، أى الخطوة الأولى نحو الصوفية. وجاء يوم مختلف وكان نقطة تحول، نظر «عزيز» فى المرآة فشاهد ما تبقى منه. رأى شبحاً يمشى على قدمين وفى لحظتها اتخذ قراره ونهض ليجمع أغراض «مارجو» فى صندوق ووزعها على أطفال اللاجئين الذين كانت «مارجو» ترعاهم، وبدأ يبحث عن عمل، ولحسن الحظ وجد وظيفة مصور فوتوغرافى فى شمال أفريقيا فى مجلة سياحية مشهورة، وهناك التقى بعالم أنثربولوجيا عرض عليه أن يكون أول مصور غربى يصور الأماكن المقدسة، مكة والمدينة واللتين غير مصرح لغير المسلمين بدخولهما، لذا فقد وجب عليه أن يطلب المساعدة من بعض الجماعات الصوفية فى المنطقة. يكمل «عزيز» فى رسالة ل«إيلا»: «إن الدنيا عجيبة جداً يا إيلا.. إننى لم أذهب لتلك الأراضى المقدسة حينها ولا حتى بعدها بل تحولت إلى مسار آخر، وما اعتبرته وسيلة لتحقيق غايتى أصبح غاية فى حد ذاته...». وقد أطلق «عزيز» على ذاك الجزء من حياته الحرف «و» فى كلمة صوفى (المرحلة الثانية فى رحلته إلى الصوفية). ورسالتى: أنت تحلم وتحدد وتخطط وتجعل لك أهدافاً (هذا إذا كنت من واضعى الخطط والنقاط)، وتأتى الأقدار لتقول كلمتها وتضع لك نقاطاً فوق الحروف، تخطط أن تصل إلى مرحلة ما ومكان معين وغاية محددة وتنتهج السبل إلى هذا، وفجأة إذا بالسبيل والوسيلة يتحول إلى غاية وهدف فى حد ذاته، بل إلى ميناء ترسو عليه سفينة حياتك للأبد أو لفترة محدودة، وأيضاً لا يقرر هذا الشىء سوى القدر وصانع القدر.