ورأت «إيلا» صورة «عزيز» التى بعثها إليها وهو محاط بأطفال من الشرق الأقصى واقفاً مرتدياً ملابس سوداء وشعره الأسود المموج منسدل على كتفيه، وقد بدا لها نحيفاً ذا عينين دقيقتين ينبعث منهما طاقة ما، فسّرتها إيلا بأنها شفقة وعطف كبيران، وتسلل إلى روحها شعور بأنها رأته قبلاً وبأنها تعرفه ولكن أين؟! وتوصلت أخيراً إلى أنه هو.. نعم هو شمس التبريزى، نفس الملامح والهيئة، وتساءلت حينها: تُرى أرسم عزيز ملامح بطل روايته على شاكلته!؟ أم أنها ملامح التبريزى الحقيقى وقد تشابه عزيز مع رجل سبقه بثمانمائة عام!؟ أيُعقل أن يُبعث التبريزى فى شخص عزيز؟! وهنا أحست بالرغبة فى قراءة الرواية ثانية لتعيد اكتشاف عزيز المتوارى وراء التبريزى، كما أنها ازدادت فضولاً بشأن عزيز: من هو؟! وما قصته؟! فكل ما تعرفه عنه أنه اسكتلندى وله اسم شرقى، وماذا تعنى كلمة صوفى التى ينتسب إليها عقائدياً؟! لهذا قررت إيلا واعتزمت إعادة القراءة، ومن البداية. ورسالتى: إعادة القراءة تفتح تجليات جديدة وآفاقاً أرحب ومعانى أدق.. أعيدوا قراءة كل شىء، حتى الأشخاص، ففى الإعادة إفادة. ودائماً ما تكون القراءة الثانية أدق من الأولى، والثالثة أكثر تفصيلاً، وهكذا. ولا ننسَ: قراءة الوجوه والملامح وحركات الجسد كلها تكمل بعضها بعضاً، لكن بالتأكيد ليس كل البشر قادرين على القراءة، كما أن هناك بشراً طلاسمهم كثيرة وشفراتهم معقدة، مما يجعل قراءتهم أمراً فى غاية التعقيد والصعوبة، ولكن لا تتوقفوا عن محاولة إعادة قراءة الأشياء، كل الأشياء.. ففى الإعادة إفادة. وما زالت إيلا تنظر إلى صورة عزيز، وخيالها يحدّثها بأمور كثيرة، فوجهها يبتسم، وروحها تحلّق بعيداً، وخيالها بجمح بها، يصور لها قصصاً وحكايات وعالماً جديداً ليس به سواها هى وعزيز. وفجأة اعتراها شعور أخجلها وجعلها تغلق الحاسوب هرباً من نفسها ومن الموقف، فقد جذبها عزيز وسحرها، وهو شعور مضى وقت طويل على إحساسها به، كما أنه لا يليق ولا يجوز وإيلا سيدة الالتزام الأولى. وتكتب إيلا لعزيز: «المحبوب عزيز.. ستقول إنى مجنونة، لكن هناك شيئاً أريد أن أسالك إياه.. هل أنت شمس؟ أم أن العكس هو الصحيح بأن شمس هو أنت؟! المخلصة إيلا»، وجاءها الرد: «عزيزتى إيلا، إن شمس هو من حوّل الرومى من رجل دين محلى عادى إلى شاعر وصوفى مشهور فى العالم، وإن صادفنا شخصاً مثل شمس فمن أين لنا بالرومى مع كل الاحترام».. وسألها إن كانت تحب أن تعرف عنه المزيد؟!.. وختم رسالته بعبارة تحية حارة. وأجابت فى رسالة أخرى أن لديها كل الوقت وختمت رسالتها: «مع حبى.. إيلا». وبدأ عزيز فى سرد قصته مع عالم الصوفية، وكيف أصبح صوفياً، قال عزيز إن اسمه الأصلى هو كريغ وإنه وُلد فى منطقة ساحلية بقرب ميناء شهير فى اسكتلندا، وذكر أن رائحة البحر ومشهد شباك السمك الممتلئة هما ما كوّن خلفية طفولته ومنحته الطمأنينة الكئيبة. كان الوقت فى الستينات، عصر التظاهرات الطلابية والثورات، لكن عزيز كان فى ركن آخر من العالم، كان أبوه يمتلك مكتبة لبيع الكتب القديمة، وكانت أمه تربى الأغنام فنشأ عزيز يمزج فى روحه ما بين الوحدة التى يحياها الراعى وبين مشاعر بائع الكتب؟! يا له من مزيج عزيز!!! كان عزيز أحياناً يتوق إلى الترحال والمغامرات، لكن ما كان يمنعه هو حبه لبلدته، ولكن ببلوغه عامه العشرين قد اكتشف ولعه بشيئين، أولهما التصوير، وثانيهما الحب، وتعامل مع الشىء الأول بأن أخذ دورات تدريب فى التصوير الفوتوغرافى، أما الحب فقد أحبّ امرأة هولندية اسمها «مارغو» كانت تقوم بجولة أوروبية مع صديقاتها، وكانت مارجو تكبره بثمان سنوات، فارعة الطول، وجميلة، وعنيدة، بوهيمية، يسارية، فوضوية، مناصرة لحقوق الإنسان وللبيئة، وكانت كل هذه الصفات لا علاقة لعزيز بها، كما أنها كانت متطرفة المشاعر، إما بهجة عارمة أو كآبة شديدة، وكان عزيز يستغرب من نفسه كيف تحملها ولماذا لم يتركها، وكان يعلل لنفسه الأمر بأنه ربما أحبها حتى الذوبان. لهذا تحملها. ورسالتى: نحن حينما نتحمل غرابة طباع أحبائنا وجنونهم وثوراتهم ونكباتهم وهمومهم فنحن فى حقيقة الأمر لا نتحملهم هم، بل نتحمل تبعات مشاعرنا تجاههم. وربما حماقاتنا بالاستمرار فى حبهم، خاصة إن لم يوجد مبرر حقيقى وتفسير منطقى لذاك الحب، فأحياناً يكون ذوباننا فى الحبيب هو ذوبان الانتحار والفناء بطيب خاطر وبمنتهى الرضا والاستسلام.