كانت «إيلا» تعتقد دوماً أنها لا تحب أن تختلى بنفسها، وقد تبين لها مؤخراً أنها كانت مخطئة، وبينما كانت منهمكة فى إنجاز تقريرها عن رواية الكفر الحلو كانت تتعمد التأخير فى تسليم التقرير حول الرواية؛ لأن ذلك كان بمثابة درع تختبئ خلفها فلا مسئوليات عائلية، ولا واجبات زوجية، ولا مواجهات لم يأتِ أوانها بعد، حتى نادى الطهو والحديث إلى صاحباتها هناك لم تعد ترغب به، فقط أرادت أن تترك التفكير بأى شىء آخر، أرادت هدنة أو استراحة محارب، احتاجت ميناء ترسو به بعد أمواج عاتية متعبة مجهدة، أرادت أن تلتقط أنفاسها المتلاحقة والمنهكة، وهكذا اختبأت بين صفحات الرواية وبين ثنايا روح كاتبها، وبهذا أصبحت «إيلا» ساكنة هادئة معظم الوقت، إن «إيلا» تتغير، إن «إيلا» تنتظر شيئاً ما!!!!! أصبح عند «إيلا» الواضحة الصريحة أسرار، وجانب خفى لأول مرة، وكان سرها الأعظم والأهم هو «عزيز»، فقد كان موضوع تبادل الرسائل بينهما سراً تخفيه عن الجميع عن زوجها وأطفالها وعن وكالة النشر، وعن الدنيا بأسرها حتى «عزيز» لم يكن يعلم أنها تكتب تقريراً عن روايته وتقيمها وليست مجرد أن تقرأها، وعرفت «إيلا» طعم الأسرار والأكاذيب، وكانت تستغرب حالها، والغريب أن هذه الحالة لم تكن تزعجها، وكأنها كانت تسير صوب هدف ما، أو تنتظر حدوث شىء ما غامض المعالم والتوقيت، ولكنه قوى ومهم وملح، وهذا الانتظار كان يمدها بشعور رائع من الأهمية والسحر، الغموض الذى لم تتحلَّ به يوماً، أسعدها وأشعرها بثقة بالغة. ورسالتى: أحياناً يكون الغموض ضرورة، فالوضوح الزائد يجعل منا فرائس سهلة لمحبينا قبل أعدائنا، إذن فبعض الغموض لا يضر، ولربما كان سبباً فى إضفاء مزيد من السحر على أرواحنا، فلا تكونوا ككتاب مفتوح فيقرأه من يستحق ومن لا يستحق، فلربما وقعت كتبكم بيد جاهل عابث وحينها تسقط حروفه وتختلط كلماته، بل وربما مزق الكتاب وصاحبه، ويجب ألا نغفل حقيقة أنه أحياناً بوضوحنا الزائد نفقد الآخرين كل رغبة فى قراءتنا من الأساس، فحذارِ!!! إن الأمور بين «إيلا» و«عزيز» قد تجاوزت الرسائل الإلكترونية، فقد أصبحا الآن يتحدثان يومياً برغم فرق توقيت خمس ساعات، وكان هذا شيئاً جديداً وسعيداً فى حياة «إيلا»، حتى إن «عزيز» قال لها يوماً إن صوتها ناعم رقيق، وعندها ضحكت «إيلا» ضحكة متقطعة، وكأن الضحكة تأبى أن تخرج طبيعية، وأرادت «إيلا» بذلك أن تطوى الموقف المحرج، ضحكة خاضعة لتحكم وكبح «إيلا» المسيطرة على كل شىء، وعلق «عزيز»: «دعى نفسك تنجرف مع التيار». ورسالتى: توقفى «إيلا» عن السيطرة على روحك بهذا القدر المزعج، فأحياناً بعض الحرية مفيد، إفلات بعض المشاعر وليس انفلاتها. لم تكن «إيلا» تستطيع الاستسلام للتيار ولا لانجرافاته، فقد كانت منجرفة ومندهشة بأشياء أخرى؛ مدرسو ابنها، واستشارات غذائية لابنتها مريضة البوليميا، وإعلان «جانيت»، ابنتها الكبرى، انفصالها عن حبيبها الذى حاربت من أجله كثيراً، كان تيارها منجرفاً محملاً معه مشاكل أسرتها، التى لا تنتهى، ويقيناً ليس هذا هو الانجراف المقصود. كانت «إيلا» ترقب كل هذا بروح جديدة، روح صنعها «عزيز» والتواصل معه، وقد تعلمت من «عزيز» أنه كلما لبثت هادئة رزينة مع أولادها كان ذلك طريقاً أقصر للوصول إليهم وإلى مشاكلهم، ليس معنى هذا ألا تهتم أو لا تكترث، بل بتعقل وموضوعية وملاحظة لهم غير ملحوظة منهم، نعم ف«إيلا» الآن أكثر رزانة وعقلاً وثباتاً، وهنا شعرت بالارتياح، فهى لا يتوجب عليها الآن أن تقلق من أشياء تفوق قدراتها أو لا تستطيع السيطرة عليها. وأخيراً لاحظ «ديفيد» تغير «إيلا» فأصبح اطمئنانها يقلقه، وثباتها يوتره، ويقينها يشككه، وعلى الفور أبدى رغبة فى قضاء وقت أطول معها فجأة، وأصبح يعود إلى البيت أبكر، وهنا شعرت «إيلا» أنه لم يعد يواعد أخريات، وظل يكرر دوماً: «حبيبتى هل أنت على ما يرام؟». وكانت تجيبه كل مرة: «أنا على ما يرام، مثل المطر»، أصبحت ردودها وايماءاتها معه غريبة، مما زاد من قلقه واستغرابه، ألم أقل لكم إن بعض الغموض مفيد!! ورسالتى: كما الحرب خدعة، فالحب أيضاً خدعة، بعض المراوغة مفيد أحياناً، خاصة مع نوع معين من البشر، وهم المراوغون بالأساس، هكذا يستمتعون أكثر فهم يحبون شعور القلق والمغامرة والمقامرة والوضوح وانكشاف الأوراق مع أخلاق كهكذه تصيبهم بالملل والكآبة والرتابة، هذا إن كان الاحتفاظ بهذا النوع من البشر بغية وأملاً. أما «إيلا» فلم تكن تراوغ أو تتظاهر ولكنها بالفعل انصرفت عن الاهتمام ب«ديفيد» وبما يدور برأسه، فقد شغلت بعالم جديد عالم تبحث فيه عن روحها هى.