مساء الأحد الماضى وبعد سقوط مؤسسات الدولة اليمنية فى العاصمة صنعاء بيد المسلحين الحوثيين، تم توقيع اتفاق تسوية للأزمة اليمنية بعد وساطة من المبعوث الأممى جمال بنعمر وبحضور الرئيس اليمنى عبدربه هادى منصور. ويجسد عدة دلالات مهمة لسيطرة الحوثيين العسكرية على عدد كبير من مرافق الدولة اليمنية بما فيها مقرات عسكرية حصينة بالعاصمة فضلاً عن تدمير وتخريب بعض مقرات آل الأحمر وحزب التجمع اليمنى للإصلاح وجامعة الإيمان التى يشرف عليها رجل الدين القبلى عبدالمجيد الزندانى الذى يمثل الإخوان فى طبعتها اليمنية. لقد أصبحت اليمن الآن رهينة توازن قبلى دينى طائفى مذهبى مناطقى جديد تماماً عما كانت عليه قبل سقوط العاصمة بهذه السرعة اللافتة للنظر، وهو توازن ينهى تماماً ميراث نظام الرئيس الأسبق على عبدالله صالح. وفى ظل المعادلات الجديدة يصبح الحوثيون فى الشمال بداية من العاصمة وحتى حدود محافظتى عمران وصعدة بمثابة القوة الأكبر نفوذاً عسكرياً وسياسياً. ووفقاً للاتفاق الذى وقع ستكون هناك حكومة جديدة فى خلال شهر، وسيكون للرئيس اليمنى مستشارون من الحوثيين ومن الحراك الجنوبى، وعملياً لن تمر الحكومة الجديدة إلا إذا رضى عنها الحوثيون، فى الوقت الذى لا توجد فيه قوة موازية يمكنها أن تجبر الحوثيين على تنفيذ الجوانب العسكرية فى ملحق الاتفاق والخاصة بتسليم كل المقار العسكرية التى تم الاستيلاء عليها فى الأسبوع الأخير، وإنهاء الاعتصام فى وسط العاصمة صنعاء وتفكيك نقاط التفتيش التى أقاموها على عدد من الطرق الرئيسية التى تربط صنعاء بالمحافظات الأخرى. وبعبارة موجزة لقد بدأ زمن الحوثيين على الأقل فى شمال البلاد، وانتهى ما تبقى من نظام صالح. معروف أن أتباع الحوثى، الذين يحملون اسم جماعة أنصار الله، قريبون من عقيدة الشيعة الاثنى عشرية، ويتواصلون مع طهران على قاعدة وحدة المذهب، وطهران بدورها قدمت دعماً هائلاً ومتزايداً طوال العقد المنصرم ويرجع لها الفضل فى التمويل والتسليح وربط الأنصار بالعديد من شعاراتها الدينية والسياسية معاً، خاصة الشعارات المناهضة لأمريكا واليهود. ومعروف أنهم دخلوا فى ست حروب كبرى مع نظام الرئيس عبدالله صالح، ويقال دائماً إن الرئيس صالح فى اللحظة التى يقترب فيها الجيش اليمنى من حسم المعركة مع أنصار الحوثى، كان يصدر أوامره بوقف القتال والدخول فى مفاوضات تنتهى عملياً بإفساح مساحة أخرى من الزمن للحوثيين لكى يعيدوا تنظيم أنفسهم والحصول على دعم آخر من طهران يتم استغلاله فى حرب أخرى بعد عام أو أقل من الجولة السابقة. وبينما كان اليمنيون يثورون ضد الرئيس صالح ونظامه، وكانت مؤسسات الدولة مشغولة بنفسها والنخبة المحيطة بصالح أو التى تعارضه مهمومة بنتيجة المساومات حول المبادرة الخليجية والخروج الآمن للرئيس صالح وأبرز معاونيه، كان الحوثيون يتماهون مع الثورة ومطالبها ويعدون أنفسهم ليكونوا رقماً أساسياً فى معادلات ما بعد خروج صالح وبناء نظام جديد يعترف بنفوذهم وطموحاتهم لا سيما فى تشكيل كيان فى الشمال متحرر من قبضة الدولة اليمنية، وله الحق فى السيطرة على منفذ بحرى على البحر الأحمر، أو بعبارة أخرى مشروع كيان حوثى يقتطع نفسه من أراضى اليمن المعروفة، ويشكل منطقة نفوذ إيرانية مستقلة فى جنوب الجزيرة العربية، وبالقرب من باب المندب. من الناحية العملية، فإن ما حدث فى الأيام القليلة الماضية يوفر فرصة للحوثيين للوصول إلى نقطة الكيان الشمالى البعيد عن سيطرة الدولة اليمنية، أو بالأحرى الخارج كلية عن الدولة اليمنية، التى هى الآن فى اختبار وجود بالمعنى الحقيقى للكلمة. فأياً كانت الحكومة اليمنية المقبلة، وأياً كان المشاركون فيها من التيارات السياسية المختلفة، فإن مجرد تشكيلها بناء على نتائج هيمنة عسكرية حوثية على العاصمة، ستظل واقعة تحت تأثير هذه الملابسات، كما أن الرئيس اليمنى نفسه أصبح متأثراً بهذا النفوذ. أما المبعوث الدولى جمال بنعمر، فبين اليمنيين من يراه يعمل لصالح الحوثيين ضد مخرجات الحوار الوطنى الذى تم تحت رعايته كممثل أممى وبمشاركة سفراء الدول العشر الأكبر فى العالم. تحليل دور بنعمر فى حماية الدولة اليمنية كدولة وحدة سيظل مثار خلاف واجتهادات عديدة، خاصة أنه يتدخل فى كل كبيرة وصغيرة، ولا يترك لليمنيين فرصة الحوار والأخذ والرد حسب التقاليد المعتادة بينهم. كما سيظل تفسير السيطرة السريعة للمسلحين الحوثيين على مؤسسات مهمة ومن بينها مواقع عسكرية حصينة فى شمال العاصمة وغربها مثار استفهام شديد، خاصة فى ضوء التعليمات التى أصدرها وزير الداخلية لمنتسبى الوزارة بعدم مواجهة الحوثيين واعتبارهم أصدقاء للشرطة فى حماية المرافق اليمنية. ويلاحظ هنا عدة تفسيرات، أهمها أن المواجهة لم تكن بين الدولة والحوثيين الذين أُعطوا فرصة كاملة للاعتصام والبقاء فى وسط العاصمة منذ أكثر من شهر، وتُركوا يحاصرون العاصمة دون مقاومة تذكر، ولكن كانت مواجهة بين الحوثيين كممثلين لمذهب بعينه فى مواجهة قوى نافذة أخرى من آل حاشد والأحمر وحزب الإصلاح الإخوانى، وهى القوى التى تعد امتداداً لنظام صالح، ولعبت دوراً فى تحجيم الرئيس الانتقالى عبدربه منصور هادى، الذى آثر ألا تتدخل قوات الجيش فى هذه المواجهة وترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعى وفقاً للتقاليد التاريخية اليمنية فى الصراع بين القبائل. ومؤدى هذا التفسير أن الرئيس اليمنى استعان أو تواطأ أو قبل على مضض، ولكل معنى ودرجة مختلفة، بأن يقوم الحوثيون بتأديب وتهذيب قوى نظام صالح البائد دون أن يورط الجيش فى تلك المواجهة. أما الوجه الآخر لهذا التفسير فهو أن الرئيس اليمنى استبدل الحوثيين بقوى نظام صالح، ولكل ثمن ومخاطر. بعض الذين يعتقدون فى التفسير السابق يرون أن الرئيس هادى جزء من مؤامرة ضد حزب الإصلاح الإخوانى، ولكنه للأسف وقع فى براثن قوة مدعومة إيرانياً، لا تخفى طموحها فى كيان مستقل وتفكيك اليمن، ولما كانت هناك قوى أخرى تضمر الشر لليمن، مثل القاعدة المنتشرة فى الجنوب والوسط، وتيارات فى الحراك الجنوبى تنادى بالانفصال، يصبح اليمن على شفا حفرة من التفكك، ويصبح جنوب الجزيرة العربية مؤهلاً لتغييرات استراتيجية كبرى سيكون لها مردودها على البحر الأحمر وقناة السويس معاً.