جاءتنى مكالمة من المركز القومى للترجمة، فاستبشرتُ خيراً بأن كتابى المحتجَز بالمطابع منذ سنوات قد صدر أخيراً، سألتُ المتحدثة بفرح: «بشرينى! صدر؟»، فقالت: «لا! اتصالى للسؤال عن الكتاب الجديد: (رجل الشعب)، تشينوا آتشيبى، متى نتسلمه منك؟»! فقلتُ لها: «توقفتُ عن ترجمته، فقدتُ حماسى، ما الذى يغرينى لأقدم كتاباً جديداً بينما كتابى القديم ما زال حبيس المطابع؟!». أما كتابى القديم رهين المحبسين؛ محبس المطابع، ومحبس البيروقراطية، فعنوانه «لماذا نحب؟ طبيعةُ الحب وكيمياؤه»، للأمريكية هيلين فيشر، وأما عمره الآن فأوشك على إطفاء شمعته الثالثة فى ظلام مطابع المركز! لا مبرر واحداً لتعطيل كتاب مهم لبروفيسورة مهمة فى الأنثروبولوجى. قدمتُ الكتاب مُراجَعاً لغوياً ونحوياً وصرفياً ومُنضَّداً ينتظر زر «اطبع»؛ فيُضاف للمكتبة العربية كتابٌ عظيم! قبضتُ أتعاب الترجمة منذ سنوات، وصرفتها! مرَّت على الكتاب ثورتان هائلتان بدَّلتا وجه التاريخ ولم يرَ كتابى النورَ! تعاقب على مصر رؤساءُ ثلاثة ولم ير كتابى النور! تواتر على المركز القومى للترجمة رؤساء أربعة: د. فيصل يونس، د. خيرى دومة، د. كاميليا صبح، د. رشا إسماعيل، زرتهم جميعاً فى مكاتبهم، واحتسيتُ القهوة والشاى وعصير الليمون المثلج، وطاردتهم بالمكالمات لأسأل عن كتابى كثيراً وكثيراً، ولم ير كتابى النور بعد! والآن، تشرَّف المركز برئاسة المثقف المستنير د. أنور مغيث، فلم أفكر حتى فى أن أهاتفه لأسأله عن كتابى رغم أنه أستاذى وصديقى العزيز، لأننى يئستُ، واتخذتُ قراراً حاسماً منذ آخر مكالمة بينى وبين د. رشا قبل شهور بالتوقف نهائياً عن انتظار كتابى المقتول، واحتسبته عند الله شهيداً موفورَ الأجر، دمُه ليس أغلى من دم من ذهبوا فداءً لمصر. ويبقى سؤال: «لماذا يحرص المركز القومى للترجمة على متابعة المترجمين المتأخرين فى تقديم أعمالهم عن مواعيد العقود، بينما لا يحرص على طباعة تلك الأعمال، فتُترَك لعتمة المطابع لسنوات؛ حتى تذوى وتذبل وتفقد نكهتها وطزاجتها؟!». الأستاذة الجميلة رانيا فتحى وعدتنى بالسؤال عن كتابى القديم، لكن همّها الأول والأخير هو الكتاب «الجديد»، الذى علىَّ أن أسارع بتقديمه! فقلت لها: فيمَ العجلة فى تقديمه إن كان سيتعثر فى المطبعة ويُحنَّط جوار جثمان أخيه؟! أليس هذا إهداراً للمال والوقت والجهد؟ الهدف، كما أفهم، هو أن يُطبع الكتاب ليقرأه الناس، وليس أن تُقدم الكتب للمركز لاستيفاء الأوراق! ذكَّرنى هذا بواقعة شاهدتُها وأنا طالبة بكلية الهندسة جامعة عين شمس وقدمت بها بحثاً فى مادة الطرق والشبكات، كنت أسير مع أمى فى أحد الشوارع فوجدت عمالاً يرصفون أحد الطرق، ومن ورائهم عمال آخرون يحفرون ما تم رصفه للتو! فاندهشتُ وظننتها الكاميرا الخفية! توقفتُ وسألت العمالَ الأُوَل، فأخبرونى بأنهم تابعون لهيئة الطرق فيرصفون الطريق، وأما العمال الآخرون فتابعون لهيئة الاتصالات فيحفرون ما تم رصفه حالاً لمد أسلاك تليفون! فكل وزارة لا تدرى شيئاً عما تفعل الوزارة الأخرى، ولا ينسقون أعمالهم فيتسببون فى هدر المال العام! تلك عجائب مصر المحروسة! قبل أن أُنهى المقال، جاءتنى مكالمة أخرى من أ. رانيا تخبرنى بأن المركز سيكلمنى خلال أسبوعين لاعتماد النسخة النهائية من كتابى القديم قبل الطباعة، ورغم أننى سمعت هذه الجملة عشرات المرات خلال السنوات الماضية، فإننى أثق أن عهداً مشرقاً آتٍ على المركز القومى للترجمة فى عهد د. مغيث، بإذن الله، يعيد إليه مجده القديم الذى كان فى عهد د. جابر عصفور. حين أتسلم نسخة الكتاب الأول، وقتها فقط، سأعرف إجابة السؤال: لماذا نحب؟