صحراء شاسعة تتعالى الشمس فوقها فيشتعل رملها جمراً، قابضاً على سلاحه تعانق جبهته السماء. يقف متحدياً الخطر، الذى لا يعرف من أين يأتى ولا موعده لكن رائحة الموت حوله فى كل مكان، يلمحها فى ذكريات زملائه، الذين روت دماؤهم الرمال. كل ما يتمناه إنهاء فترة تجنيده والعودة إلى عروسه التى تنتظر. أيام قليلة ويفارق الصحراء ووحدته العسكرية بمنطقة الفرافرة بالوادى الجديد إلى «الحصة»، قريته، البعيدة ليشارك والده ما تبقى من تجهيزات الفرح. وعندما تقترب الشمس من المغيب يذهب محمود رجب غريب معها فى أحلامه. وما بين الخوف والرجاء يستعيد كلمات أخيه الأكبر محمد، عندما حذره من العودة إلى وحدته العسكرية بعد أن نجاه الله من الموت مرتين إثر أعمال إرهابية استهدفت وحدته. وعندما ابتسم وهو يردد «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، كانت زخات الرصاص تنطلق من حوله فى كل مكان كالمطر، وفى لحظة، تحولت الوحدة إلى ساحة قتال، ومع مغيب الشمس وانطلاق أذان المغرب من بعيد، سقط «محمود» غارقاً فى دمائه وسط 20 آخرين من زملائه بعد أن طالتهم يد الإرهاب. ويرن جرس الهاتف فيرد الأخ الأكبر «محمد»، ويزف إليه خبر استشهاد أخيه. لا يصدق. يرد على المتحدث فى غضب قائلاً «إزاى أنا لسه مكلمه من نص ساعة قول لمحمود بلاش الهزار التقيل. ده أنا خلاص هسمع كلامه وأروح أصالح أمى وأبويا وأرجع البيت النهارده». يعاود المتصل تأكيد الخبر ينطلق «محمد» نحو منزله ليجد أمه طريحة الفراش وقد نفضت عن جبينها آلام المرض، ونهضت لإعداد الدقيق والسمن ومستلزمات كعك العيد. تتوقف الكلمات فى حلقه وينطلق مسرعاً إلى كوبرى القبة للتأكد من صحة الخبر. قائمة بأسماء الشهداء يحملها أحد المجندين منادياً الشهيد محمود رجب عبدالوهاب فرج، يطير الخبر إلى قريته، فتسقط الأم مغشياً عليها، ويحاول الأب التماسك لدقائق يدخل بعدها فى نوبة من البكاء.. مات «محمود». تتذكر الأم ابنها والدموع لا تتوقف من عينيها قائلة «كلمنى قبل ما يقتلوه قالى يامّا متزعليش أنا جايلك على طول مش هتأخر. وصالحنى على أخوه. كنت بجهز فى طلبات العيد وحاجة فرحه. وقلتله انزل عاوزة أفرح بيك يا محمود. شقتك وعفشك خلاص يا حبيبى. قالى هانت فات الكتير». تواصل والدة الشهيد «كان مسافر معاه زميله جهزت الغدا وغديتهم قلتلهم خلوا بالكم من نفسكم يا ولاد. رد زميله وقالى: مش عاوزين نروح إحنا بنموت كل يوم يا أمى ومحدش حاسس بينا. قلت له يا حبيبى هما كام يوم وهتخلصوا عشان تعرفوا تشتغلوا وتشوفوا مستقبلكم. لما رجعت سمعته بيقول لمحمود أنا قلبى مقبوض ومش مطمن ما تيجى نغيب. يقول لأ دا واجب ماينفعش دا أنا بخدم فى سبيل الله واللى كاتبه ربنا هشوفه». أما الأب فيغلبه حزن يحاول إخفاءه عن أولاده وزوجته المريضة لكن دموعه تكشفه، يتوارى من النظر إلى زوجته التى طلبت منه عدم خروج محمود إلى العمل على السيارة الخاصة به خلال فترة إجازته حتى تستطيع الجلوس معه لفترة كافية، فيقول «كل إجازة كان بيطلع يشتغل على العربية عشان يجيب مصاريفه، وعمره ما زعلنى، حضرت له الجهاز وكنت مستنيه ينزل فى العيد عشان ننقله لكن العيد هييجى وولدى لأ مجاش