لم تتبق من كريم وجيه ضابط العمليات الخاصة الذى استشهد فى بورسعيد قبل أيام، سوى كلماته، وأنين الهمس فى أنفاسه، تائها بين ضلوعه المسكونة بالرصاص.. لا شىء سوى صمته الأبدى ورحيل ظلاله بلا رجعة.. لا شىء سوى دمعات لا تتوقف فى أعين أسرته: والدته، زوجته، شقيقته، وذلك الطفل الذى لم يكمل عامه الثانى ياسين ابنه، يبكى ويصرخ تارة ويهيم غافلا مشتتا تارة أخرى. افرحى يتحدى كريم الجميع، يواجههم بعينين حانيتين، يدرك أن والدته لا تكف عن البكاء: «ماما.. أنا كنت عايز أموت كده، متستغربيش أيوه أنا كنت عاوز أموت شهيد، شهيد الواجب، شهيد وطنى وناسى، أدفع حياتى تمن عشان اللى باحبهم يعيشوا فى أمن، يعيشوا فخورين بى، زعلانة ليه يا ماما ولا أقول لك يا «سوسو» مش كنت بتحبى أناديك بكده؟ أنا مش زعلان ومش عاوزك تزعلى، بدل ما تزعلى علىّ افرحى لى.. أيوه افرحى لى، يا ماما، أنا عريس فى السما.. أنا بإذن الله شهيد عند ربنا.. ادعى لى بس كل ده اللى أنا عاوزة وخلى بالك من ياسين ابنى وإنجى أختى وزوجتى». حبيبى تكاد روح النقيب كريم تحتضن ابنه ياسين الذى لا يفارق جدته ولا يكف عن اختبار قدرته على السير وحده فى الشقة، يدرك كريم أن ياسين عندما يكبر لن يكف أيضاً عن السؤال عنه فيجيبه: «إزيك يا ياسين يا حبيبى أنا بابا، أنا عند ربنا شهيد.. اللى يسألك فين بابا قل له: بابا شهيد، فى جنة ربنا فى السما، واللى يقولك راح إزاى قل له: إن اليوم اللى راح فيه بابا عند ربنا وبقى شهيد كان يوم عيد ميلاده.. ودّعنا يومها ومشى.. زمايل بابا فى الشغل كانوا بيسموه «أسد العمليات الخاصة»، بابا كان ضابط فى الأمن المركزى وكان شغال فى العمليات الخاصة.. ويوم 14 مايو، الساعة 2 بالليل طلع مأمورية فى بورسعيد بعد النطق بالحكم على المتهمين فى مجزرة استاد بورسعيد.. كان معايا يا «ياسين» النقيب شادى مجدى زميلى وصاحبى من قوات الأمن المركزى وباقى أفراد القوة من الأمناء والمجندين ولما وصلنا المكان اللى مستخبى فيه المتهم وفوجئنا بإطلاق الرصاص علينا بطريقة عشوائية مما أسفر عن إصابة زميلى النقيب شادى مجدى بطلقة نارية فى القدم فاستمررت فى مطاردة المتهم وتبادلنا معه إطلاق الرصاص، حتى أصبت بطلقتين فى القدم والصدر ونقلونا أنا وزميلى شادى إلى المستشفى.. وخلاص يا حبيبى نقلونى المستشفى ورحت مكان أحسن من الدنيا واللى فيها الحمد لله.. أنا مت شهيد.. عارف يا «ياسين» آخر مرة شوفتك فيها.. كانت قبل السفر للمأمورية بيوم واحد واليوم ده كان عيد ميلادى واحتفلت معاك إنت وماما وسافرت على طول بعد ما شاركت فى تأمين جلسة قضية البورصة فى التجمع الخامس، وكأنى كنت عارف مصيرى وإنى مش هاشوفك تانى.. خدتك بالحضن، حضنتك قوى مكنتش عاوز أسيبك يا ياسين وقلت لك، وانت لسه طفل فى اللفة: «خلى بالك من ماما.. ماما أمانة فى رقبتك لو حصل لى حاجة». الأب فى لحظاته الأخيرة فى مستشفى الشرطة بالعجوزة كان كريم يشعر باقتراب والده الراحل وهو المقدم وجيه سيف الذى كان يعمل رئيسا لمباحث أحد أقسام الشرطة فى محافظة البحيرة وتوفى وكريم لا يتجاوز عامه الثامن، وإنه كان السبب الرئيسى وراء إصراره على دخول كلية الشرطة.. كريم يهمس لوالده أنه كان السبب الرئيسى وراء اختياره، وإصراره على دخول كلية الشرطة، يقول إنه لم ينسَ بدلته والكاب والنجوم والنسر الذى لا يزال يحتفظ به داخل الدولاب بغرفة نومه. «عارف يا بابا أول ما تخرجت من كلية الشرطة سنة 2006 تذكرت كتيبة أبوبكر فى قطاع الأمن المركزى، وهى أول كتيبة عملت بها وعشت فيها أيام ثورة يناير وبرده شوفت البهدلة اللى العساكر الغلابة دى بتتبهدلها أنا كنت باعاملهم زى إخواتى.. فاكر يا بابا لما كنت بتيجى تلعب معايا وأنا صغير أنا مش ناسى شكلك بالبدلة الميرى ولا مسدسك اللى لما مسكته مرة إنت ضربتنى وأنا زعلت منك لكن إنت يومها بالليل خدتنى ورحنا الملاهى ولفينا بالعربية وجبت لى آيس كريم. أنا كنت مصمم أكون فى قوات العمليات الخاصة عشان أشارك فى مأموريات القبض على الخطرين وفى كل مأمورية كنت أروحها كنت أدعى ربنا إنى أموت شهيد، وكان قبل المرة دى كنت فى مأمورية فى صحارى سيناء وانضرب علينا نار كتير وأنا روحت البيت وكان معايا 18 فارغ من طلقات نارية أطلقها علينا تشكيل عصابى أثناء إلقاء القبض عليهم. حمَام بص يا بابا أنا لو فضلت أحكى مش هاقدر أوفى حق ماما علىّ اللى كانت دائما فى معايا أنا وأختى من ساعة لما سبتنا كان عمرى 8 سنوات وكان عمر أختى إنجى 5 سنوات وتحملت المسئولية كاملة وكانت دايما تشجعنى على المذاكرة وأنا كنت فى الثانوية العامة كنت فى مدرسة مبارك بمدينة نصر وكانت تفضل سهرانة طوال فترة الامتحانات لحد ما ربنا كرمنى ودخلت كلية الشرطة ولما رجعت من حفلة التخرج لقيتها محضرة لى الأكل اللى أنا باحبه «حمام محشى» أصلها كانت بتحبنى قوى وضيعت عمرها كلها عشان خاطر تربينى أنا وأختى تربية كويسة وحتى لما أنا اتجوزت من حوالى 5 سنوات أخدت شقة فى عمارة مجاورة لها عشان تفضل تطمن عليا، والدتى دى غالية عندى قوى ربنا يصبرها أنا عارف إنها زعلانه بس أنا باقول لها ربنا يقدرك وتربى ياسين ويدخل كلية الشرطة ويكون ضابط كبير فى الداخلية ويعوضك، أصل هى كانت دايما تتخانق معايا عشان أسيب العمل فى قوات الأمن المركزى بعد الثورة والمظاهرات وطلبت منى إنى أسيب قوات الأمن المركزى وأشتغل فى أى مكاتب إدارية بالمعسكرات عشان منزلش الشارع تانى، بس أنا ريحتها وطلبت وقلت لها إنى هاعمل كده بس أنا كان نفسى أموت شهيد وطلبت انتقل العمليات الخاصة عشان كده والحمد لله ربنا كرمنى وهاموت شهيد. أنا ودعت الجميع يوم الثلاثاء منتصف الشهر الجارى ولما أصبت، زمايلى حملونى من بورسعيد بطيارة وتم نقلى إلى مستشفى الشرطة بالعجوزة وهناك كان موجود عدد من أفراد عائلتى وحمايا وهو لواء شرطة كبير فى الداخلية الذى حضر برفقة أصدقائى من قوات العمليات الخاصة وجيرانى من منطقة مدينة نصر والتجمع الخامس إلى المستشفى فى انتظار خروج الجثمان لنقلى إلى المقابر بمنطقة العاشر من رمضان ودفنى هناك. عايش لن أصف صرخات أمى ولوعتها وحسرتها، كانت فى عملها أصل هى موظفة كبيرة فى شركة بترول، وخبر مقتلى نشر فى المواقع الإخبارية، شقيقتى أخفت عنها الخبر بعد أن اتصل بها أحد زملائى وأخبرها بخبر وفاتى، حيث اتصلت بها وأبلغتها أنى مصاب فى بورسعيد وعندما حضرت إلى المنزل وجدت شقيقتى فى حالة بكاء هستيرى فقالت لها بصوت عال: «كريم حصل له إيه؟»، ردت عليها بصوت ضعيف من شدة البكاء: «كريم أخويا محبوب كل الناس بتحبه، كريم كان بيحب شغله قوى، كريم ربنا بيحبه، كريم مات، مات شهيد، عند ربنا، البركة فى ياسين ابنه، كان فى مأمورية للقبض على مسجل خطر اسمه بسله فى منطقة المناخ ببورسعيد وتلقى رصاصتين فى القدم والصدر عطلت جميع أجهزة جسمه ومات فى الحال، انطلقت صرختها التى لم تتوقف حتى عندما وصل جثمانى إلى مسجد آل رشدان لتشييع جنازتى ميزت صوتها كان صوتها ضعيف من شدة البكاء. الصرخات لم تنته فتجد زوجتى تحضن ابنى ياسين وتبكى بكاء هستيريا وتصرخ وتقول: «لا، كريم عايش مش ميت، وتشد على يد والدتها وتقول لها قولى إنه مصاب بس».