«لا تفجعى بموتى. فالموتُ مجردُ حادثٍ، لكنه ليس الأهمَّ. منذ التقيتكِ يا حبيبتى، يملؤنى الفرحُ لأنكِ علمتِنى كم هو عظيمٌ قلبُ المرأة. فى عالمى الجديد، أول ما سأفعله، هو التفتيشُ عنك. تطلَّعى للأمام، وانعمى بالحرية والحياة وافرحى بالأطفال، واذكرينى». تلك رسالة الوداع التى تركها رئيس الوزراء البريطانى «ونستون تشرشل» عام 1915، وهو فى الأربعين من عمره، إلى زوجته «كليمنتاين»، كى تفتحها إذا ما قُتِل فى الحرب العالمية الأولى. عُرضت مؤخراً للجمهور البريطانى فى متحف «تشرشل» بلندن. سيموت «تشرشل» بعد كتابته الرسالة بنصف قرن كامل عام 1965، لكن الرسالةَ ستظلُّ قطعةً فنية فريدة تحملُ من العذوبة والحبِّ، بقدر ما تحمل من إعلاء للمرأة والحبيبة، بقدر ما تحمل من الجسارة وعدم مهابة الموت، إذا اقترن بقضية من أجلها يدفع المرءُ عمرَه راضياً. ولا عجبَ أن يكتبَ سياسىٌّ وجندىٌّّ مقاتل مثل هذه الرسالة المُلهِمة، إن عرفنا أن رجل الدولة رفيع الطراز، الأديبَ، الخطيب، الرسَّام، قد حصد جائزة نوبل فى الأدبِ عام 1953 بمؤلفاته فى التأريخِ الإنجليزى والعالمى. وفى استطلاعِ BBC عام 2002، اختير كأحد أعظم 100 شخصية فى تاريخ بريطانيا. كانت خطاباته وخُطبُه مصدرَ إلهام هائل لقوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان أول من أشار بالسبَّابة والوسطى، كعلامة النصر، V، التى أخذها العالمُ عنه. هكذا كان يخفف عن حبيبته وجنوده وحلفائه. أما بمَ كان يُخفِّف عن نفسه وعثاء الحرب الكونية الهائلة؟ فبالرسم! من أجل هذا اخترتُه ليكون عصفورَ اليوم، الذى يقفُ على «غُصنى». أثناء الحرب العالمية الثانية، وفى غمرة شعوره بالقلق من ويلات حرب تدمِّر العالم، وقف فى شرفته بفندق مراكش بالمغرب، مع فرشاته وباليتة ألوانه، وراح يرسم الشمسَ وهى تميلُ على جبال أطلس. الرسمُ علاجٌ إذن! أهمسُ بها لمَن يضعون الفنونَ بمرتبة أقلَّ فى هرم تدابير الحياة. أو لمن يرونه رفاهيةً أو فراغاً. فلم يكن بين البشر رجلٌ أكثر انشغالاً من رئيس وزراء بريطانيا، وأحد العقول الفائقة التى تدير أخطر الحروب. لكنه كان يرسم! ومتى؟ ليس فى وقت الدعة والسلام، بل عام 1935، فى أتون الوغى والاقتتال الكونىِّ. فقط، لأنه أدرك ببساطة أن الفنَّ مجددٌ الروحَ، شاحنٌ الطاقةَ، مُصفٍّ العقلَ من «الشوشرات» والنفايات. أما تلك اللوحة التاريخية: «غروب الشمس فوق جبال أطلس»، فقد بيعت بالأمس القريب مقابل 420 ألف دولار فى دار مزادات بنيويورك، كما بيعت لوحتان أخريان بأكثر من مليون دولار للواحدة، للفنان التشكيلى ذاته: «ونستون تشرشل». الفنُّ مُغوٍ وساحر حتى للساسة. فلا تعجبوا إذن من الإسكندر الأكبر، الذى لم يكن ينام، إلا و«الإلياذة» تحت وسادته.