كنت طفلاً عندما تزوج إسماعيل النقيب من شقيقتى بركسام التى نزحت من قريتى الصغيرة للعمل صحفية بجريدة الأخبار، وكان هو رئيساً لقسم الشئون العربية.. رجل تلقائى، ريفى، لهجته بسيطة، ممتعة، ينطق بالجيم حتى اعتقد الكثيرون أنه صعيدى، فيما هو من القنايات شرقية. نزح إسماعيل النقيب من قريته ليلتحق بالجامعة، والتقطه كامل الشناوى وأنيس منصور، أعجبا بثقافته وطريقة حكيه الجذاية، فألحقاه بمجلة «الاثنين» فى بداية الستينيات وهو ما زال طالباً، ليلتحق بعدها ب«الأخبار»، ويتنقل فى العمل، فيشرف على الملحق الأدبى، ثم يرأس قسم الشئون العربية ليصبح صديقاً مقرباً للملوك والرؤساء. هذا الرجل، الذى جاب العالم شرقاً وغرباً، وكان يحادثه أمامى أكبر شخصيات فى العالم العربى، كان يعيش فى شقة حجرتين فى إحدى عمارات محافظة الجيزة بالهرم، بالدور الأخير، ولم يغادرها إلا بعد أن خرج على المعاش وحصل على مبلغ نهاية الخدمة فاشترى شقة أخرى فى الهرم أيضاً فى الدورى الأرضى لأنه لم يعد يستطيع الصعود لأعلى، حتى عندما قرر أن يشترى سيارة من أجل بناته كانت فيات 128 وبالقسط! لماذا أحكى هذا الآن ولم أذكره من قبل إلا مرة واحدة عندما تحدث عنه صحفى أصبح يعتلى الآن رأس إحدى المؤسسات الصحفية - ولم يكن يعرف صلتى به - فكان يتحدث عن ما يتقاضاه من الدول العربية وما يملكه من بيوت وسيارات، ولم يصدق أذنيه عندما رددت عليه.. لماذا؟ لأن كثيراً من زملاء النقيب فى المهنة والتخصص ومن كانوا أصغر منه، كانوا يمتلكون فعلاً القصور والسيارات، ولكنه عاش شامخاً، طاهر اليد، لا يحب إلا ارتداء الجلباب و«البلغة الشريفة» كما كان يطلق عليها - رحمه الله - ويرى أن رياضته المفضلة هى الكلام، ومثله الأعلى السلحفاة، فلا شىء يستحق العجلة والاندفاع. عاش هذا الرجل فاتحاً بيته لكل المواهب الشابة النازحة من الأقاليم، خاصة البنات، فقد كان يخشى عليهن من قسوة القاهرة والتى كتب فيها يوماً «معذرة يا قاهرة، يا أم المدائن والقرى والقمر الغريب، فبعد أن كنت أخاف عليك منى، أصبحت على نفسى منك أخاف». مات إسماعيل النقيب زوج شقيقتى وأستاذى، الذى علمنى ألا أبحث عن منصب فى الصحافة، فالكاتب هو الذى يعيش.. علمنى ألا أطلب شيئاً خاصاً من مسئول، لأنى سأفقد حريتى فى تلك اللحظة. منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، سقط إسماعيل النقيب على رأسه فى الحمام، ولم يفق بعدها، هذا المغرد أصبح نادر الكلام، كلمات قليلة وهو جالس على فراشه لا يغادره، حتى سكن الصمت الدائم، عيونه فقط تنبئ بكثير من الكلام والفلسفة، بعد أن انفض المحبون والنفعيون، وأصبح لا يسأل عنه إلا قليل من الأوفياء.. هكذا الدنيا، إياك أن تظن أنك تساوى شيئاً، إلا وأنت على مقعدك، معك السلطة أو القلم، ولن يبقى لك إلا عملك الطيب ومن أحبوك بلا هدف. رحل إسماعيل النقيب واقفاً كالأشجار، نازفاً كالعصافير وهو لا يملك حساباً فى البنك، ووقفت معه مؤسسته الكريمة فى محنته فتحملت تكاليف العلاج الباهظة، فشكراًَ ل«الأخبار» وللأستاذ محمد الهوارى ومن قبله الأستاذ محمد بركات.. وشكراً لإسماعيل النقيب الكاتب والمبدع والإنسان الذى ترك فينا حباً واحتراماً وشوقاً إلى يوم اللقاء.