تعتبر الأفلام المصرية التى شاركت فى مهرجان «كان» السينمائى الدولى قليلة للغاية، وعلى الرغم من مشاركة مصر فى المهرجان منذ بداياته، تبقى بعض الأفلام المصرية التى دخلت المسابقة الرسمية، أو التى حصلت على جوائز من المهرجان، ذات أهمية كبرى، وتوضح التراشق والتداخل الحادين بين الثقافة والسياسة المصرية فى تاريخ مصر المعاصر. ويعد «وداعاً بونابرت» (1985) للمخرج يوسف شاهين، واحداً من أهم الأفلام التى شاركت فى مهرجان «كان»، ويطرح «شاهين» فيه رؤاه الفنية وأفكاره غير التقليدية عن الصراع بين مصر كرمز للشرق المتراجع حضارياً والمغزو ثقافياً وعسكرياً، وفرنسا كنائبة عن الغرب المتقدم، ضمن جدلية الصراع الأزلى بين الشرق والغرب، منذ بزوغ نجم الفرس كقوة مناهضة ومنافسة لبلاد اليونان القديم، وحضارتها التى قامت على أساسها الحضارة الغربية الحديثة. وتقوم فكرة هذا الفيلم المثير للجدل على غزو نابليون بونابرت وجيشه المتقدم لمصر، فى نهاية القرن السابع عشر، واستمراريته إلى بداية القرن التاسع عشر، ويؤرخ الفيلم للاحتكاك الحضارى بين مصر بتراثها الفرعونى العريق، الذى لا يزال يذهل العالم (وفرنسا فى المقدمة) ودولة فرنسا صاحبة الفتوحات العسكرية والحضارة المتقدمة آنذاك. ويظهر الفيلم مصر فى القرن التاسع عشر –زمن الغزو الفرنسى– ذات الحضارات القديمة والحاضر البائس الذى جعلها خارج نطاق الزمن وتتحصن بالماضى الغابر، وبين فرنسا بجيشها الجرار وتقدمها العلمى الكبير؛ فالحاضر وقتئذ يواجه الماضى، والتاريخ يؤسس للمستقبل. ويثير الفيلم فى نفوس مشاهديه الاختلاف بين مرحب بالغزو الفرنسى، الذى أخرج مصر من عصور التخلف العثمانى وبين معارض لفكرة الغزو الفرنسى لمصر، أياً كانت ثماره، وسواء أجاء نابليون بالمدفع والمطبعة (وكان من إحدى ثمارها كتاب «وصف مصر» وفك رموز اللغة المصرية القديمة) ثم ذهب المدفع وبقيت المطبعة، أو اعتبار الحملة الفرنسية على مصر غزواً صريحاً مثل الاحتلال الإنجليزى بعد ذلك؛ فهو فى كل الأحوال احتلال فى شكله ومضمونه، حاول السيطرة على روح الأمة المصرية وسلبها روحها الأصيلة. ومازال يوسف شاهين يؤرخ للصراع، ويوثق للتطور السياسى والعقائدى والعنف الفكرى الذى عاشته مصر فى حقبة التسعينات من القرن العشرين المنصرم بفيلمه العلامة «المصير» (1997 جائزة مهرجان كان الخمسينية) الذى يذهب فيه هذه المرة إلى دولة الأندلس، ويوضح الصراع الدائر فى دولة الخلافة المزدهرة آنذاك بين سلطان العقل ممثلاً فى الفيلسوف العربى الشهير «ابن رشد»، وبين أعدائه من دعاة النقل والتخلف والانغلاق الفكرى وقهر حرية الفكر والإبداع والاعتقاد وفرض القيود عليها، هذا على المستوى العام، أما على المستوى الشخصى فإن شاهين يشير بهذا الفيلم الدامغ للإرهاب الفكرى إلى تعرضه هو نفسه له، حين رُفعت دعوى قضائية تطالب بعدم عرض فيلمه المتميز «المهاجر» (1994)، وعلى الرغم من أن «شاهين» كان بهذا الفيلم يوضح الظرف السياسى القاهر فى مصر آنذاك، فى ظل تقاعس النظام السياسى عن نصرة المبدعين فى مواجهة طيور الظلام، فإن شاهين وكأنه يستشرف ما يحدث فى مصر الآن من محاولات عديدة لمحاكمة المبدعين وأصحاب الفكر والرأى المخالفين للتيار السائد فى مصر الآن. وأدخل خبر مشاركة المخرج يسرى نصر الله بفيلمه الجديد «بعد الموقعة» (2012) فى المسابقة الرسمية فى الدورة ال65 لمهرجان «كان» السعادة فى قلوب كل عشاق السينما فى مصر، ويمثل الفيلم عودة للسينما المصرية لمهرجان «كان» بعد طول غياب، وتجىء هذه المحاولة من «نصر الله» فى مصر ما بعد ثورة 25 يناير التى أطاحت بنظام الرئيس المخلوع الفاسد لتضيف الكثير للزخم السياسى فى مصر الآن. وتشير التصريحات الصحفية إلى أن فيلم نصر الله يتناول حدثاً سياسياً مؤثراً كانت له أهميته فى القضاء على نظام المخلوع وإنجاح الثورة بعد خطابه العاطفى، وأعنى «موقعة الجمل» التى حاول فيها النظام القديم ورموزه الإجهاز على الثوار فى ميدان التحرير، حتى يسيطر على الأوضاع بعد انتصار الشباب والشعب ضد فساد ثلاثين عاماً من حكم المخلوع. وفى النهاية، نتمنى حصول فيلم نصر الله على «السعفة الذهبية» ليصبح العربى الثانى الحاصل على هذه الجائزة بعد الجزائرى محمد الأخضر حامينا عن فيلمه «وقائع سنوات الجمر» (1975) وحتى يسعد يوسف شاهين فى قبره بتلميذه الذى حقق حلماً من أحلامه بحصوله على الجائزة حتى لو فاز بها أحد تلاميذه العظام.