يوم الخميس الماضى، قادتنى الظروف إلى المرور فى شوارع وسط القاهرة مساء، حيث أمكننى ملاحظة حالة من الهدوء، وانسياب المرور، وعدم وجود زحام أو تجمعات من أى نوع، باستثناء واحد تقريبا يخص ثلاثة محال لبيع الأطعمة والحلويات؛ إذ كانت أعداد من المواطنين تنتظم فى طوابير لشراء منتجات تلك المحال الثلاثة بإقبال بدا لافتا وغريبا فى آن. وأما وجه الغرابة، فيكمن فى أن تلك المحال بالذات كانت تعرضت لأزمة كبيرة على مدى الأسابيع الفائتة، بعدما صدرت قرارات إدارية بإغلاقها، لأنها «لا تستوفى المعايير المطلوبة»، قبل أن تتدخل جهات عليا لحل تلك المشكلة، ولتعود تلك المحال لعملها، بعدما أفاد القائمون عليها ب «الامتثال لتلك المعايير». وعند تحليل تلك المفارقة، سيظهر قدر من الدهشة؛ إذ إننا نعرف أن السمعة مسألة حيوية فى تقييم المنتجات الاستهلاكية، وعندما تكون تلك المنتجات غذائية، فإن حجم المفارقة يتسع؛ حيث تظل مسألة سلامة الغذاء ضرورية لبقاء أى مُنتج، فضلا بالطبع عن الإقبال عليه، بل والزحام كذلك. ستكون هناك مقاربات عديدة لتلك المشكلة، وسنسمع فيها الكثير من الأقوال والتأويلات، لكن أحد أوجه تلك القضية الأكثر أهمية يتعلق ببساطة بفكرة «الثقة العمومية». فكيف يأتى الطعن فى سلامة الغذاء المُقدم من أحد المنتجين من الجهات الحكومية المُختصة، ثم يُعلن أن الإشكال تم حله؛ فإذا بطوابير المستهلكين تندفع بكثافة للشراء، من دون أن يترك التشكيك والطعن فى السمعة أى أثر تجارى يُذكر؟. يرى الاقتصادى الأمريكى الحاصل على «جائزة نوبل»، كينيث أرو، أن «الثقة هى مادة الغراء الاجتماعى، وأن سر نجاح المعاملات فى أى مجتمع يكمن فى وجود القدر اللازم من الثقة»، وقد ظلت «الثقة العمومية» فى المؤسسات والمعاملات الاجتماعية دوما أحد أسرار نجاح مجتمعات ودول؛ مثل السويد وألمانيا وسنغافورة، كما كانت أيضا أحد التفسيرات الأكثر ترجيحا للفشل الذى ضرب دولا؛ مثل الأرجنتين ولبنان، وبعض دول إفريقيا جنوب الصحراء. ومن بين أفضل التعريفات التى سعت إلى توضيح مفهوم «قوة الحكومة» ذلك التعريف الذى يشير إلى معدل الثقة فى سلطات الدولة الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، والذى يعتبر تلك الثقة عنصرا مؤثرا فى قياس شرعية الحكومة وقوتها. والثقة لغة هى الإيمان الراسخ بمصداقية شخص أو كيان، واليقين فى أن ما يقوله هو الحقيقة، واصطلاحا هى علاقة اعتماد بين شخصين أو كيانين؛ يعتمد أحدهما على الآخر فيما يعرف أنه يقدر عليه، استنادا إلى الاعتقاد القوى فى أنه سيفعل كل ما بوسعه لكيلا يخذله، وأنه لن يخاتل أو يكذب فى أمر يخصه. ومن دون توافر قدر ملائم من الثقة فى العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية سيتراجع التماسك الاجتماعى، والنمو الاقتصادى، والاستقرار السياسى، وستضحى قدرة الحكومات أقل على الإقناع وتحقيق المطاوعة والامتثال لدى المواطنين والمؤسسات. إن تضعضع «الثقة العمومية»، أى الثقة فى سلطات الدولة، يُعد نقضا للعقد الاجتماعى الذى ينظم العلاقة بين المواطنين والسلطة، بالنظر إلى أن الصلاحيات التى فوضها الجمهور لتلك الأخيرة لم تنتج- فى المجتمعات الحديثة- عن «الشوكة» أو «التغلب»، وإنما نتجت عن الرضا المتبادل، المستند إلى تنظيم وتقنين وآليات محاسبة فعّالة، عبر الدستور، والقانون، وعملية الانتخاب. ليست أزمة المحال الغذائية الشهيرة السابق الإشارة إليها هى الأزمة الوحيدة التى عكست غياب القدر المناسب من الثقة فى قرارات المؤسسات وتوجهاتها، إذ تنضم إليها أزمات أخرى؛ مثل مشكلة قانون الإيجارات القديمة، أو إجراءات نزع الملكية للمصلحة العامة، أو سياسات معالجة تجاوزات البناء ومخالفاته، أو عمليات الاستثمار الأجنبى فى أصول الدولة. وفى كل هذه الأزمات، وغيرها الكثير، تتخذ السلطات قرارات مُحددة، أو تباشر إجراءات بعينها، وتعلن مسوغات لما تُقدم عليه، لكن قطاعات ليست قليلة من الجمهور لا تُظهر اقتناعا، بل ربما تفسر تلك القرارات والإجراءات بتفسيرات مُغايرة تماما، وهى تفسيرات تعكس ببساطة غياب «الثقة العمومية»، أو تراجعها إلى حد مُقلق. وبينما يؤكد عالم الاجتماع الشهير روبرت بوتنام أن الثقة العمومية تقلل التكاليف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للقرارات، مما يُسهل التعاون ويعزز التماسك، فإن فرانسيس فوكوياما يقول فى كتابه «الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها فى خلق الرخاء الاقتصادى»، إن «الثقة فى الحكومة والمؤسسات تقلل من الاحتجاجات العنيفة، وتزيد من قبول السياسات العامة، حتى لو كانت صعبة ومُؤلمة». يقتضى الإنصاف القول إن قدرا من التشكيك الذى يستهدف القرارات والسياسات الحكومية مُصطنع، ومُبالغ فيه، وقد تؤججه دول ومنظمات ومنصات مُضادة، لكن ذلك لا يجب أن يصرفنا عن مراجعة حالة «الثقة العمومية»، ومحاولة إيجاد الطرق اللازمة لتعزيزها.