الشعوب -كما الأفراد- تقع فى الخطأ، ولكن نظراً لعظم حجم الشعب وبطء حركته فإن أخطاءه تكون هائلة، ومغبتها مدمرة، وإمكان تصحيحها بلا خسائر، قليل. نتذكر أن الشعب قد فوّض جماعة الإخوان الضالين بأغلبيات كبيرة أكثر من مرة وأوشكت الغلطة أن تودى بكيان الدولة فى مصر وتطيح بأقدار شعبها. قلنا كان مخدوعاً بالعاطفة الدينية العفوية التى أساء اليمين المتأسلم توظيفها لأغراضه السياسية الدنيئة، ناهيك عن التلاعب الفج بالاستحقاقات الانتخابية. ولكن على الحصيف، فرداً أو شعباً، أن يتعلم من أخطائه. الآن الشعب ذاته، بعفوية تقارب السذاجة السياسية أحياناً، يفوّض المشير السيسى من دون أى وعود يقطعها الرجل على نفسه، بل هو يتوعد المصريين. ومعلوم فى السياسة أن المرشح الذى يقطع وعوداً أثناء سعيه لمنصب، يمكن أن يرجع عنها بعد الفوز به، فما بالك بمن يتوعد ناخبيه المحتملين بالعذاب والشقاء، وهو ما زال مرشحاً محتملاً؟ لا ريب فى أن الشعبية الجارفة للمشير مبررة، غير أن بعض مظاهر تأييده، خاصة من قبل بعض الإعلاميين، قد كسرت حاجز التملق المُسفّ إلى أغوار الإضرار بالحياة السياسية فى مصر، وأحد أهم معالمها بعد الثورة الشعبية العظيمة ألا يعطى حاكم أياً كان تفويضاً مطلقاً. وبعض هذه المظاهر ليس إلا مخالفات دستورية وجرائم نكراء تضر بحقوق أطفال أبرياء وتؤذيهم. وكأن شطراً من الشعب مدفوع بالقابلية للاستبداد، لأن يُورّط الشعب كله فى احتمال أن يُستبد به. وكل هذه سلبيات ينبغى أن يبرأ منها الرئيس المرجّح. ولا يبشر غياب غضبه على هذه التجاوزات بخير لمستقبل رئاسته، فمعناه أنه كرئيس يمكن أن يقبل التزلف ولو تزيّد أو أضر بأبرياء. والتساؤل المهم هنا هو: هل سيستطيع أحد مساءلة المشير الرئيس السيسى إن كان ما يتوعد به، ولا أقول يعد، هو: «أمشيكوا على رجليكم، وأصحيكوا الساعة 5 الصبح كل يوم، ننكمش فى الأكل، ننكمش فى التكييف، أشيل الدعم مرة واحدة، الرئاسة معايا عذاب ومعاناة»؟ فليُعد المتزيدون فى تأييد المشير النظر، وليتق الله فى الشعب أولئك المغالون فى الترويج لرئاسة المشير. فبعض الوعيد الذى قدّم مجاف لغايات الثورة الشعبية وللحرص على مصالح الشعب سويا. مثل هذا الوعيد إما أنه يعبر عن قلة اكتراث بالحصول على المنصب، وهو أمر محمود. أو أنه يعبر عن ثقة زائدة فى حتمية الحصول عليه بحيث لا يحتاج المرشح لاستمالة ناخبيه المحتملين الذين يعلن بعضهم، ومنهم رجل دين كان ينبغى أن يتحلى بالوقار، عن «الذوب فيه عشقاً»! وهل نلوم مثل هذا الرجل إن وصل للمنصب أن يستبد بالبلاد والعباد؟ لا أظن! (3) العبرة بالخواتيم فى صحيح البخارى أن خاتم المرسلين قال: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم». وفى التفسير يقال «كم من عبد طال عهده مع العبادة والتوحيد، والجهاد، والصبر على البلاء، ثم فُتن قبل موته، وختم له بعمل طالح فخسر الدنيا والآخرة». على الرغم من البدايات الطيبة والمقدرة، فقد تمخضت الولاية الأولى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة عن معاناة شعبية ضخمة وانتهت نهايات غاية فى السوء للشعب ولقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسها، ليس أقلها الإعفاء الكسيف والمهين ممن يسروا لهم القفز على السلطة. فالكاتب يعتبر الولاية الأولى للمجلس مسئولة عن وصول تحالف اليمين المتأسلم للحكم بقيادة الإخوان الضالين. وكل ما جروه على البلاد والعباد من عنت وطغيان وكاد يتسبب فى هدم أركان الدولة المصرية لدوافع لا تمت بصلة للوطنية وصالح شعب مصر. فلعل القائمين على أمر الولاية الثانية لقيادة القوات المسلحة يتفادون ما وقعت فيه الولاية الأولى من أخطاء وخطايا. (4) كيف تحسُن خواتيم الولاية الثانية؟ بداية، ينبغى ملاحظة أن المطالب التالية تكررت المطالبة بها فى عهد الولاية الأولى للمؤسسة العسكرية، ثم إبان حكم اليمين المتأسلم بقيادة الإخوان الضالين، ثم مرة ثالثة فى ظل سلطة الحكم المؤقتة التى يلعب الرئيس المرجّح الدور المحورى فيها. ومغزى الملحوظة أن هذه مطالب مزمنة طال تجاهلها من جميع الحكومات منذ اندلاع الثورة الشعبية العظيمة. ومن ثم ينبغى على أى نظام حكم يدعى الانتماء للثورة الشعبية أو مجرد الحرص عليها ونصرتها، أن يعطيها أولوية حاسمة منذ أول عهده. ويلى ذلك المطلب الأولى بالرعاية الحرص التام على نصرة غايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ويتطلب التحرك الجاد تجاه هذه الأهداف المتضافرة نقض الاستراتيجيات والسياسات التى وضعها نظام الحكم الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، وتسببت فى المظالم الهائلة التى اقتضت اندلاع الثورة، والامتناع عن إعادة تأهيل رموز النظم السابقة الذين أفسدوا الحياة السياسية، ولو لم يصدر بحقهم أحكام قضائية. ومن أسف حافظت جميع الحكومات بعد الثورة الشعبية على حزمة السياسات ذاتها، ووسدت السلطة إلى أشخاص تنتمى إلى عصور ما قبل الثورة وتخاصمها، فأضافت إلى المظالم التى تفرزها بنى الحكم التسلطى لا محالة أسبابا أقوى لموجات تالية من الثورة الشعبية. وعلى وجه التحديد، يتعين على سلطة الحكم القادمة أن ترجع عن القيود التى مورست على الحقوق والحريات فى المرحلة الانتقالية الراهنة، مثل الرجوع عن قانون التظاهر المنتهك لنص دستورى قاطع، وتقوم على تأسيس البنية القانونية المكملة للدستور لا سيما النصوص الحامية للحقوق والحريات ولضمان الحكم الديمقراطى السليم. ومن دون إنجاز يعتد به فى جميع هذه المجالات فعلى أولى الأمر فى الولاية الثانية أن يعلموا أن شعب مصر لم يعد يطيق أن يُستبد به وقد تمرّس فى إسقاط الطغاة الظَلمة؟ ومن ثم، فإن الولاية الثانية للمؤسسة العسكرية، والرئيس المختار منها، سيكونون فى مرمى الموجة الثالثة الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة لإسقاط حكمهم إن لم يحسنوا الأداء لخدمة صالح شعب مصر ونصرة غايات الثورة الشعبية حتى تحسُن خواتيمهم.