لا يمكن للأيديولوجيا أن تغنى عن الدين، وليس بوسعها مهما تكاملت أن تحل محله، أو تلغيه، أو حتى تحيده، فكل من تصور أن هذا ممكن وقع فى خطأ فادح، وكل التجارب التى طبقت فى هذا الاتجاه انتهت إلى فشل ذريع، وإذا كان البعض يحول الدين إلى أيديولوجيا حين يخلطه بالسياسة، مثلما يفعل اليمين المسيحى المتطرف فى أمريكا وغيرها، والعديد من الأحزاب اليهودية المتشددة، والجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى، المعتدل منها والمتطرف، فإن هذا كله لا يعنى أن الدين أيديولوجيا محضة، أو أن الأخيرة بوسعها أن تحقق الامتلاء الروحى والنفسى الذى تمنحه الأديان، وليس بوسع أى فكرة أو نظرية أو توجه أن يحل محل الذات الإلهية فى كمالها وعظمتها وقدرتها وجلالها. فسبحان الحى الذى لا يموت، والقيوم الذى لا ينام، من لا يفنى ولا يباد، ولا يكون إلا ما يريد، الأول بلا ابتداء ولا شىء قبله، والآخر بلا انتهاء ولا شىء بعده، لا شىء مثله ولا إله غيره. وهناك حالة وسطى بين الدين والأيديولوجيا. حالة تلبس ثوب الأسطورة، أو الإيمان بزعيم دينى أو قائد سياسى ذى شخصية ملهمة ساحرة، قادرة على التأثير فى أتباعه تأثيرا دفينا وقويا، بحيث يصبح الواحد منهم بين يديه كالميت بين يدى مغسله، فى استسلام تام، واستلاب كامل، وانبهار بكل ما يصدر عنه من قول أو فعل. ويحضرنى فى هذا المقام واقعة حدثت بالفعل، وأخرى مختلقة، أو مشكوك بها، ومفندة علميا على أيدى كثير من المؤرخين والباحثين، ولا يمكن إلا أن تدخل فى سياق ما لمسناه فى الحركة الصهيونية من أكاذيب، تحت شعار جهنمى يقول: «اكذب اكذب فسيصدقك الناس». والحادثة الحقيقية وقعت فى 18 من نوفمبر عام 1978، حين قام ألف شخص ينتمون إلى فرقة دينية أمريكية تدعى «المحفل الشعبى» ظهرت فى جيانا بأمريكا الجنوبية، بقتل أنفسهم، تنفيذا لأوامر زعيمهم جيم جونز. فهذا الزعيم كان يتوقع ردا عسكريا أمريكيا قاسيا، على قيام الفرقة بقتل أحد أعضاء الكونجرس. وقدم الآباء لأولادهم شراب الكولا ممزوجا بمادة السيانيد السامة، ثم شربوها بدورهم، فخروا جميعا ساقطين. وعكس خطاب هذه الفرقة لزعيمها حالة من الولاء الشديد له، فقد كانوا ينادونه ب«بابا حبيبى». وها هو أحدهم يقول له: «بابا أحسن مما وقع لى». ويقول ثان: «أنت الذى حررتنى». وثالث: «أنا كالموزة، قرن فى سباطة». وقبيل الموت قال أحدهم له بامتنان: «هأنذا أرتشف الجرعة»، وآخر قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «أموت مغتبطا». ( نكمل غداً)