كان الإنسان البدائي في البداية عاملا ، وكان يقف إزاء العالم موقفا واقعيا ، أي أنه كان عليه منذ البدء أن يعمل ويفكر بصورة واقعية ، وقد كان الدافع والمحرك في فعل الإنسان هذا وتفكيره هو ضرورة التكيف مع الطبيعة من اجل الحياة ومن أجل استمرار الحياة ، لأن حياة الإنسان واستمرار حياة الإنسان في عصر طفولة التاريخ (عصر الأسطورة) كان يتوقف على أمرين ، الأمر الأول هو الغذاء والأمر الثاني هو التناسل ، وبدون الغذاء يموت الإنسان ، وبدون التناسل يفنى الجنس البشري ، ولذلك كانت الآلهة في عصر الأساطير عصر طفولة التاريخ تجمع في شخصها الخصب والجنس معا ، فهي من ناحية تمثل خصب الطبيعة بمياهها ونباتها وحيوانها ، وهكذا توفر الغذاء للإنسان ، وفي الغذاء استمرار الحياة ، ومن ناحية أخرى تمثل الرغبة الجنسية التي ينتج عنها الاتصال بين الذكر والأنثى فيحقق الإنسان تناسله وتكاثره ، وفي الاتصال وفي التناسل الحفاظ على الجنس البشري ، وقصة عشتاروت كنعان وعشتار بابل وايزيس مصر وافروديت اليونان وفينوس الرومان تؤكد هذه الحقيقة ، وفي قصة الملكة سميراميس نرى الإشارات التي تشير إلى أن الحضارة البابلية كانت بحق جهدا إنسانيا متكاملا قام على أساس العمل المشترك بين الرجل والمرأة لبناء صرح حضارة علمت الإنسانية أبجدية الحياة المتحضرة بكل أسبابها وأشكالها وحيثياتها ، وهكذا كانت الحضارات القديمة تقدس الأنوثة وتحترم الرجولة ، وتقيم الاعتبار للجنس بنوعيه ، كل نوع يتكامل مع النوع الأخر في المنظومة الطبيعية ، والعلاقة بين الأسطورة والتاريخ علاقة عضوية وهي تفرض على التاريخ الاستفادة من المادة الأسطورية كمصدر للمادة التاريخية ، لأن الأسطورة كتابة أدبية تعبر عن أنشطة الإنسان القديم الذي لم يكن قد طور بعد أسلوب الكتابة التاريخية الذي يساعده على تسجيل أحداث التاريخ ، ولذلك كانت الأسطورة هي الوعاء الذي وضع فيه الإنسان في عصر طفولة التاريخ خلاصة فكره ، والوسيلة التي عبر فيها عن هذا الفكر وعن أنشطته المختلفة التي مارسها وخاصة نشاطه الديني والسياسي والاقتصادي ، والوسيلة التي حافظت على تاريخ الإنسان لأن نسيان التاريخ نوع من أنواع الموت ، وقد كان الموتى الهابطون إلى العالم الأسفل في الميثيولوجيا الاغريقية يشربون في طريقهم من نبع النسيان لكي يقضوا الحياة الباقية بدون ذاكرة أو تاريخ ، والأسطورة كما قال بارت رولان ( BARTHES ROLAND )( ) (1915 – 1980 ) ظاهرة لازمت المجتمعات قديمها وحديثها بحيث لا يخلو تراث أي أمة من الأمم من الأسطورة ولكن وفي عصر التاريخ ، عصر الفضائيات والانترنت ، عصر التحديات المعقدة والمتعددة والمتناقضة والمتداخلة في نفس الوقت لم يعد الدافع والمحرك في فكر وفعل الإنسان هو ضرورة التكيف مع الطبيعة من أجل الحياة واستمرار الحياة ، لأن الحياة لم تعد تتوقف على الغذاء وحده ، ولأن استمرار الحياة لم يعد يتوقف على التناسل وحده ، ولكنه تجاوز الغذاء والتناسل إلى حرية الاختيار العقائدي وحرية الاختيار السياسي وحرية الاختيار المعيشي وحرية الاختيار الأسري وحرية الاختيار السلوكي . حرية الاختيار العقائدي حقيقة لم يعد استمرار الحياة في عصر التاريخ يتوقف على الغذاء والتناسل ، ولكنه تجاوز الغذاء والتناسل إلى حرية الاختيار العقائدي بين الإيمان العقلاني الواعي بالعقيدة أو الرفض المادي الاستهلاكي للعقيدة الذي يسيطر على نزعات العصر ، ولا شك أن هذا الاختيار يختلف حسب مراحل الفكر وطبيعة المصالح والفئات الاجتماعية ، ولكن رأي العقل في اختيار العقيدة هو أن العقيدة ليست خاضعة لإرادة الإنسان ، وهي ليست امرأ اختياريا حتى يتم البحث عن حرية الاختيار في العقيدة ، لأن الدين ظاهرة اجتماعية رافقت المجتمعات البشرية منذ نشأتها الأولى ، ولذالك نرى انه من المستحيل أن نتصور ماهية الإنسان دون أن يتبادر إلى ذهننا فكرة الدين لأن الدين جزء من الطبيعة البشرية ، وقوة من قوى النفس ، وخاصة من خواصها ، وأساس كل ثقافة مشتركة بين الناس ، لذالك من الممكن أن ينتهي كل شيء ، ولكن من المستحيل أن ينتهي الدين ، ومن الممكن كما قال المؤرخ الإغريقي الروماني بلوتارك ( ) PLUTARCH ) ) ( 120 ق م – 46 ق م ) ( الاسم الإغريقي مستريوس بلوتاركاس ) أن نجد مدنا بدون أسوار وبدون ملوك وبدون ثروة وبدون آداب وبدون مسارح ، لكن لا يمكن أن نجد مدنا بدون دين أو لا تمارس العبادة ، وقد استطاعت الأديان أن تعلم الإنسان انه ليس حشرة اجتماعية أو نملة اجتماعية في مجتمع النمل ، ولكنه إنسان ذو كرامة وإدراك واختيار ، وهذه حقيقة اعترف بها الكثير من المؤرخين والمفكرين والفلاسفة وعلماء الأجناس والنفس والاجتماع ومن أشهرهم المؤرخ والفيلسوف وعاشق دراسة الحضارات ارنولد جوزيف توينبي ARNOLDTOYNBEE ) ) ( 1889 – 1975 ) الذي أكد في كتابه ( العادة والتغيير ( أن التدين جزء من الطبيعة البشرية ، وان الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير دين من نوع ما ، وان فكرة الدين متأصلة في نفوس البشر ، بحيث لم يقم مجتمع بشري في العالم إلا وهو مشبع بفكرة الدين) ، والعالم الألماني المولد البريطاني الجنسية ماكس موللر (( MAX MULLER (1823 - 1900 ) الذي كان يهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية الهندية القديمة واسهم إسهاما كبيرا في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة والدين وعلم الأساطير وقال إن فكرة التدين من الغرائز البشرية التي فطر عليها الإنسان منذ نشأته الأولى ، وبنيامين كونستان أحد مؤرخي الأديان الذي قال ( إن الدين من العوامل التي سيطرت على البشر، وان التحسس الديني من الخواص اللازمة لطبائعنا الراسخة ، ومن المستحيل أن نتصور ماهية الإنسان دون أن يتبادر إلى ذهننا عقيدة الدين ) ، والعالم الانثروبولوجي ادوارد تايلور ( EDWARD TYLOR ) (1832 – 1917 ) أستاذ علم الإنسان في الجامعات البريطانية الذي قال في كتابه ( الحضارة البدائية ) ( أن الثقافة عنصر مساعد في فهم تاريخ الإنسان ، وإن الشعوب البدائية مهما انحط إدراكها فإن لها شكلا من دين ) ، والعالم سوندرام بلوم (SONDRAM BLOOM ) الذي قال في كتابة ( مختصر تاريخ الأديان ) ( لم نعثر في أي مكان في العالم على قبيلة أو شعب ليس له طقوس دينية مقدسة ) ، والمؤرخ والكاتب الفرنسي ارنست رينان( ) (ARNEST RENAN ) ( 1823 – 1892) الذي اشتهر بترجمته ليسوع التي دعا فيها إلى نقد المصادر الدينية نقدا تاريخيا علميا والى التمييز بين العناصر التاريخية والأسطورية الموجودة في الكتاب المقدس ، وقال في كتابه ( تاريخ الأديان ) ( من الممكن أن تنتهي حرية استعمال العقل والقلب والعلم والصناعة ، ولكن من المستحيل أن يتلاشى الدين ) والكاتب المسرحي البريطاني توماس ستيرنز اليوت ( TOMAS STEARNS ELIOT ) ( ( 1965 – 1888 الذي قال في كتابه ( أوراق وملاحظات عن الثقافة ) (الأديان أساس الثقافة ) ، وذالك بالإضافة إلى العالم جيفري لانغ JEFFREY GANG )) وهو بروفيسور أميركي في الرياضيات في جامعة كنساس في الولاياتالمتحدة الأميركية ومن مواليد 1954 في مدينة برديجبورت اسلم وتزوج من سيدة سعودية ووضع كتابه ( الصراع من اجل الإيمان ) الذي اثبت فيه وجود عقيدة الإله عند الشعوب القديمة في قارة استراليا وإفريقيا وأمريكا الشمالية وأميركا الجنوبية ، والعالم الجيولوجي الألماني شرايدر الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة ، وكارل بروكلمان (KARL BROCKELMAN ) ( 1868 - 1965 ) وهو اكبر باحث عرفته الجامعات الأوربية في النصف الأول من القرن العشرين في مجالات الدراسات السامية وتاريخ التراث العربي الذي وجدها عند الساميين قبل الإسلام ، والفيلسوف الألماني المثالي جورج هيغل (GEORG HEGEL ) ( 1770 – 1831 ) الذي صور الآلة بأنه المطلق الذي تفسر التغيرات في عالم الأفكار والأشياء وفق فلسفته القائمة على علاقة التضاد التي وأن كانت لا تخدم فكرة الإيمان إلا أنها لا تنفيها بل تحاول أن تثبتها منطلقة من فرض تعقبه سلسلة طويلة من الفروض ، والى جانب هذه الدراسات التي تجرى في الحقول البشرية ، وتتصل بالنفس الإنسانية التي لا تقاس بمقاييس المادة ولا تخضع لأنابيب الاختبار والدراسات المعملية ، لأن الإنسان الذي يمتاز بالعقل والإرادة ليس كالحيوان الذي تجري عليه التجارب , أكدت العلوم التجريبية أن المعرفة العلمية تقتصر على ظواهر الطبيعة وأعمال البشر التي يمكن استخدام المشاهدة والتجربة لاكتشاف قوانينها عن طريق الحواس , أما ما يقع وراء العقل والحواس فلا يمكن للعلم أن يبحث فيه أو يعرف عنه شيئا , وقد اقر هذه الحقيقة الكثير من العلماء التجريبيين ومن أشهرهم العالم الألماني رسل تشارلز ارنست RUSSEL CHARLES ERENST ) ) أستاذ علم الأحياء والنباتات في جامعة فرانكفورت قي ألمانيا الذي قال ( إن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة لا يؤدى إلى ظهور الحياة بالصورة التي نشاهدها في الخلايا الحية ، والعلامة هايدين( ) ( HAYDEN ) الذي قال في كتابه ( المادية ) ( إن الحقيقة التي استمر الإنسان يبحث عنها دهورا عديدة هي روحانية في وجودها والروح لا يدركها العقل ) ، وروبرت هورتون كاميرون ROBERTHORTON KAMERON ) )( ) الذي قال ( إن الإنسان يحصل على العلم بطريقتين البصر والبصيرة , البصر هو ما نتعلمه في حياتنا وما نكتسبه عن طريق حواسنا من الخبرة بأمور الحياة , والبصيرة هو ما يفرغه الله في قلوبنا فيكشف لنا ما لا نعلم ) ، وواين اولت (WAYNE) ( ) الذي قال ( إن الله كما نعرفه ليس مادة أو طاقة , كما انه ليس محدودا حتى نخضعه لحكم التجربة والعقل المحدود ، ولكنه على نقيض ذلك نجد أن التصديق بوجود الله يقوم على أساس الإيمان ، وهو إيمان يستمد تأييدا علميا من الدلائل غير المباشرة التي تشير إلى وجود (سبب أول) أو إلى (دافع) مستمر منذ القدم) ، وادوارد لوثر كيل EDWARD LUTHE )( ) الذي قال (إن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا ، لأن هناك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة , ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الجسام الحارة , ومعنى ذالك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة الأجسام وينضب فيها معين الطاقة , ويومئذ لن تكون هناك عملية كيميائية أو طبيعية ولن يكون هناك اثر للحياة نفسها في هذا الكون , ولما كانت الحياة لا تزال قائمة ولا تزال العمليات الكيميائية الطبيعية تسير في طريقها ، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا وإلا استهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود ) ، والعالم كريسي موريسون ( ( CHRISY MORRISON( ) مؤلف كتاب ( العلم يدعو للإيمان ) الذي قال فيه ( إن العلماء لا يستطيعوا أن ينفوا وجود الله , فكل واحد منهم في قرارة نفسه يشعر بقوة الإحساس أو الفكر أو الذاكرة , والآراء التي تصدر كلها عن ذالك الكيان الذي نسميه بالروح , وهم جميعا يعلمون إن الإلهام لا يأتي من المادة , وانه ليس من حق العلم أن تكون له الكلمة الأخيرة بشان وجود الله ) ، وفي رده على الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه ( FREDENICK NIETZSCHE )( ) ( 1844 – 1900 ) الذي كان يقول بأن المسيحية ديانة العبيد ، وإنها قد ماتت بموت الله – المسيح قال المفكر الإسلامي مالك بن نبي( ) في كتابه الظاهرة القرآنية ( أن قوانين الأمم الحديثة لاهوتية في أساسها ، وان ما يطلق عليه الغربيون وخاصة الفرنسيون اسم القانون المدني هو ديني في جوهره وقد اشتق من الشريعة الإسلامية ، والآن وأمام هذا الإجماع على أن التجربة الحسية المباشرة ليست هي المعيار الوحيد للتوحيد ماذا عسى الفلسفة المادية أن يقول إذا كان العالم كله من حولها يقول إن تلك القوة التي لا تخضع للعقول هي مبدأ كل معقول ، وانه لا توجد إشارة واحدة تدل على أن فكرة الدين ستزول من الأرض قبل أن يزول الإنسان نفسه ، هل ستتراجع الفلسفة المادية عن نظريتها حول نشر الإلحاد خاصة وان فيلسوف الإلحاد الأول في العصر الحديث ماركس ( KARL MARX )( ) ( 1818 – 1883 ) كان في المرحلة الأولى من الماركسية ( مرحلة ماركسية المنطلق والأصول ) يتبنى مبدأ الرفض للدين لا رفضا فلسفيا ولكن رفضا سياسيا بسبب دوره في بنية المجتمع والذي وصفه بأنه كان دورا سلبيا يقف إلى جانب المستغل ، ولذلك صنفه بين الأيديولوجيات الاستلابية التي تمارسها البنية الفوقية للمجتمع كمخدر تبريري ، وقد استمر ماركس في هذا الدور تحت تأثير فيرباخ واليسار الهيغلي من بوبر وكوبان إلى موزيس وهيس وجانز وروج وغيرهم وحتى انعكاسات فكر كندرسيه ، ولكننا لا حظنا تحول تدريجي عند كارل ماركس منذ العام 1844 ، وكان سبب هذا التحول يرجع إلى المدارس الاجتماعية الفرنسية وخاصة مدرسة سان سيمون ( SAINT SIMON )( ) ( 1760 – 1825 ) ، وكان سان سيمون يقول في كتابه المسيحية الجديدة ( ليس هدف العلم وراثة الدين وليس هدف الدين إيقاف العلم ولكن تجمعهما أرضية الوفاق والحوار لأن كليهما لازم وضروري لتحرير الإنسان وإسعاد الإنسان ) ، ولذلك تصدى ماركس باسم هذه المدرسة إلى أراء المفكرين الألمان الذين لم يفهموا سان سيمون وخاصة جران وشتاين ، لكن طلائع الارتداد عند ماركس في موقفه من الإله والدين تتجلى في قول ماركس ( الإلحاد لا معنى له ، لأنه إنكار للإله بدون مبررات اللهم إلا إذا كان الهدف أن يحل الإنسان محل الإله ) وفي قوله (الاشتراكية ليست في حاجة الى مثل هذه الشطحات التجريدية الجوفاء والمضاربة على الإله)( ) وقد استغل روجيه غارودي ( ROGER GARAUDY ) وهو مفكر وفيلسوف فرنسي اعتنق الديانة الإسلامية في عام 1982 ، وقال عن اعتناقه الإسلام أنه وجد أن الحضارة الغربية قد بنيت على فهم خاطئ للإنسان وانه عبر حياته كلها كان يبحث عن معنى معين لم يجده إلا في الإسلام هذه النصوص في حوار مع موريس كلافيل ( MURICE CLAVEL ) وهو كاتب ومفكر فرنسي كان له موقف في قضية أسيا جبار الكاتبة الجزائرية التي فصلت من عملها في دار المعلمين في باريس بسبب كتاباتها عندما أرسل رسالة إلى الجنرال ديغول يطلب منه عودة أسيا جبار إلى عملها ، كما استعمل البراهين الأخرى التي تؤكد ارتداد ماركس أو المرونة الفكرية الماركسية ، وان كان هناك اتفاق على تغيير موقف ماركس من الإله والدين سواء كان هذا التغيير ارتداد أو مرونة فكرية ، أما بقية براهين الارتداد أو المرونة الفكرية فهي رسالة ماركس المشهورة الموجهة الى البابا بمناسبة رفضه الدخول في الحلف المقدس وانطوائه تحت لوائه ، حلف هؤلاء الذين شوهوا جوهر الدين حين اتخذوا منه شرطة روحية في خدمتهم والدين منهم براء ، كما قال ماركس في رسالته الذي هنأ فيها البابا بيوس السابع على موقفه الذي ينطلق من وجدان ديني أصيل وعميق ، وقد كان هذا الحلف الذي وقعه في فينا في أيلول 1815 كل من الكسندر الأول قيصر روسيا ومترنيخ مستشار النمسا وزعيم الرجعية الأوروبية وملك بروسيا وملك بريطانيا يهدف إلى كسر أحلام الشعوب الأوروبية التي أشعلتها الثورة الفرنسية ، وقد عقد هذا الحلف بعد هزيمة نابليون في معركة الأمم ومعركة جسر واترلو ، وتنص قرارات هذا الحلف من جهة أولى على إعلان حرب لا هوادة فيها على الأفكار التحررية والمطامح القومية التي نادت بها الثورة الفرنسية ، ومن جهة ثانية الدفاع عن شرعية الملوك والأمراء المخلوعين أيام الثورة الفرنسية ، بل إرجاعهم إلى عروشهم رغماً عن الشعوب ، وتطبيق إجراءات حكم مطلق يعمل على محو كل ما زرعته الثورة الفرنسية لتعود أوروبا من جديد إلى ما كانت عليه من خضوع تام لأشباه لويس الرابع عشر الذي كان يقول انا الدولة والدولة انا ، وهو ما يعني محاربة الحركات التحررية والقومية والليبرالية والتدخل للقضاء عليها حيثما وجدت ، وقد حقق الحلف المقدس أهدافه مرحليا ، لكن الأرض عادت لترتج من جديد في 1848 ، ولذلك قال السياسي الفرنسي توكفيل بقلق وهو يطمح إلى حلف جديد شبيه بذلك الحلف المقدس الذي قاده المستشار ميترنيخ في فيينا ، حلف يطفئ الثورات ، وفي هجوم ماركس على فيرباخ نفسه عندما وصفه انه جعل من الوجدان والروح الدينية شيئا راكدا جامدا لا قدرة فيه آو له على التغيير ، ولكن أقوى البراهين على هذا الارتداد أو هذه المرونة الفكرية عند كارل ماركس كان تقييمه مع فردريك انغلز لموقف رجل الدين مانزو في حرب الفلاحين وثنائه على دوره الخلاق الواعي كرجل دين ثوري مصلح ، وقد كانت هذه الحرب عبارة عن انتفاضة شعبية للفلاحين في الإمبراطورية الرومانية المقدسة نتيجة للاضطهاد القاسي الذي تعرضوا له والأوضاع المعيشية السيئة التي عاشوها ، وقد تطورت هذه الانتفاضة إلى حرب في الفترة من ( 1524 – 1526 ) على غرار الحرب الهوسية البوهيمية ( 1429 – 1434 ) في وسط أوروبا وخاصة في بوهيميا ومورافيا بين التشيكيين الهوسيين والألمان الكاثوليك ، والتابوريين الراديكاليين والاوتراكيين النبلاء ، وكانت النتيجة أن هزم التشيكيين الهوسسين ورجعوا إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية ، وهي حلقة في سلسلة الحروب الدينية والاقتصادية ، وقد كان الصراع في معظمه يتكرس في جنوب وغرب ووسط ألمانيا ، والمناطق المجاورة في النمسا وفي ما أصبح يعرف لاحقا ومنذ مؤتمر فينا في عام 1915 الكونفدرالية السويسرية ، وشارك في هذه الحرب ما يقارب 300.000 من الفلاحين المتمردين ومات فيها حوالي 100.000 ، ولذلك تعتبر هذه الحركة اكبر انتفاضة شعبية أوروبية على نطاق واسع قبل الثورة الفرنسية في عام 1789 ، كما أنها تعتبر اكبر حركة شعبية جذرية ، لأن هذه الحركة رفضت حصر الإصلاحات في الجانب الاقتصادي وطالبت بإلغاء كل المناصب السياسية ما عدا منصب الإمبراطور ، وذلك بالإضافة إلى سخريته من المهاجرين البلانكيين الملحدين نسبة إلى الفيلسوف الملحد لويس اوغست بلانكي ( 1805 – 1881 ) الذين حاولوا حسب تعبير ماركس نفسه أن يحولوا البشر الى ملحدين عن طريق توزيع الفتاوي ، ولكن قمة البراهين التي تشير إلى الارتداد والمرونة الفكرية عند كارل ماركس كانت في هذا البرهان الذي يتجسد في النص الصريح الذي يقول فيه كارل ماركس ( إن الإلحاد قد عاش وقته ، انه تعبير سلبي لا يعني شيئا بالنسبة للاشتراكيين الاصلاء ، إن المعنى لديهم ليس هو إنكار الإله وإنما تحرير الإنسان ) حرية الاختيار الأيديولوجي تشير دراسة الصحة النفسية إلى أن الحاجات النفسية الأساسية للإنسان هي الأمن ، والحاجة إلى التقدير الاجتماعي ، والحاجة إلى التعبير عن الذات ، والحاجة إلى الانتماء وهي ما يهمنا قي هذا البحث ، لأن الشعور بالانتماء يرجع إلى بدايات مرحلة الطفولة الأولى ، ولأن شعور الطفل بأنه مهمل أو غير مرغوب فيه يثير في نفسه مشاعر القلق والتوتر النفسي ، وهنا تبرز الحاجة لدى الطفل في التقارب أو التودد لأمه وأبيه ، وذلك بالإضافة إلى أن الطفل عاجز بيولوجيا ويحتاج إلى الاعتماد العضوي على أبويه في الطعام والحماية والرعاية ، ومن هنا يبدأ الانتماء الحقيقي للفرد إلى أسرته أوالى أي جماعة أيديولوجية أو ثورية أو سياسية تحقق له الأمن ، والتقدير الاجتماعي ، والثقة بالنفس ، وقد يكون هو بالنسبة إليها الروح الملهمة أو العقل المفكر أو اليد الضاربة ، و الانتماء الأيديولوجي في حد ذاته حرية في الاختيار ، والاختيار يعني الحرية كما هو الحال في الرفض ، لأن الرفض أيضا يعني الحرية ، والانتماء الأيديولوجي حاجة إلى أن يجد الإنسان نفسه في جماعة يشعر بها سيكولوجيا وتتقارب في فكرها إلى ما يحمله من نزعات ودوافع وميول تشبع حاجاته الذاتية ، ولكن دوافع الانتماء الأيديولوجي قد تقود الفرد إلى مسايرة الاختيار الإيديولوجي أو التوافق مع خياراته أو قبول معاييره أو سلوكه حتى وان كانت متطرفة أو أثنية أو طائفية أو مذهبية أو إرهابية أو غير وطنية ، ومن هنا نرى أن المسايرة تعني التغيير في السلوك والاتجاهات بسبب الضغوط الفعلية أو المفترضة من الجماعة الأيديولوجية ، وهنا يجب أن نناقش مسألة حرية الاختيار في الانتماء الأيديولوجي ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار في الانتماء الأيديولوجي سببا في سلب حرية الآخر الوطني ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار الأيديولوجي في الرفض سببا في التصفية المعنوية والجسدية للآخر الوطني ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار في الانتماء الأيديولوجي سببا في التحالف مع الآخر غير الوطني ضد الآخر الوطني ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار الأيديولوجي سببا في تشكيل الإنسان ذو البعد الواحد والحزب ذو البعد الواحد والمجتمع ذو البعد الواحد والحكم ذو البعد الواحد ، لأن الإنسان ذو البعد الواحد سوف يقبل بالحزب ذو البعد الواحد والحزب ذو البعد الواحد سوف يقبل بالمجتمع ذو البعد الواحد والمجتمع ذو البعد الواحد سوف يقبل بالحكم ذو البعد الواحد ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار الأيديولوجي سببا في الخروج من دائرة تقديس المبادئ إلى دائرة تقديس الشخص ، وكيف يمكن أن تكون حرية الاختيار الأيديولوجي سببا في التفريط في الحقوق الوطنية والتاريخية ، ولكن المشكلة ليست في حرية الاختيار الأيديولوجي ولكنها في إساءة الاختيار في حرية الاختيار الأيديولوجي ، وان أسوأ جريمة يمكن أن يقترفها إنسان أو مجتمع هي إساءة الاختيار الأيديولوجي أو الاختيار المعيشي أو الاختيار الأسري أو الاختيار السلوكي وخصوصا على مستوى النخبة خاصة وأننا نرى أن الأيديولوجيات في عصر الفضاء والتكنولوجيا والانترنت تتجه إلى المصلحة ، وهذا يعني أن الأيديولوجيات لم يعد لها هدف قيمي إنساني بقدر ما هي مجرد تبرير لمصلحة ونفع استهلاكي أو ربح إنتاجي( )، وهكذا تتقلب الأيديولوجيات وتتلون ليس في العام الواحد ولكن في اليوم الواحد ، وقد نجد تصريحا لسياسي في الصباح يناقضه تصريح لنفس لسياسي في المساء من نفس اليوم ، وليس معنى ذلك أن هذا السياسي يكذب أو ينسي وهو بالطبع يكذب ويتناسى ، ولكن ذلك يرجع إلى المصلحة والتكتيك والإستراتيجية والتعبيرات العارية عن كل محتوى التي تتطلب هذا الكذب وهذا التناسي وهذا التلون ، وذلك طبعا باستثناء بعض الأيديولوجيات التي ما زالت ملتزمة بإطارها ألقيمي ، ولذلك على الشباب أن يعي ذلك ، وأن يعي ما قال الشاعر العربي القديم وقوله ما يزال يطابق الواقع وحقائق الواقع ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه وعلى شبابنا أن يكون واعيا وان يختار الايدبولوجية التي تنبع من تراثه لأن الأمم تعيش على تراثها وليس على أفرادها حرية الاختيار المعيشي حرية الاختيار المعيشي تنحصر بين حدين ، حد التطلع إلى الرفاهية وحد الملل من الرفاهية والرغبة في العودة إلى الحياة الطبيعية ( الهيبية والبرفوس ) ، ولكن هذا قد يكون مفهوما إلى حد ما بالنسبة إلى بعض شباب الدول الصناعية لأنها تذوقت الرفاهية ، ولكنه كيف يكون مفهوما بالنسبة إلى شباب دول العالم الثالث ، لأنه ليس من المعقول أن يمل الرفاهية من لم يتذوق الرفاهية ، ولذلك يمكن اعتبار هذه الظاهرة ظاهرة منعزلة لا تقف في وجه التقدم لدى بعض الفئات الاجتماعية في المجتمعات الصناعية ، وظاهرة مرضية في المجتمعات غير الصناعية ، كما يمكن اعتبارها تعبير عن سخونة الدفع والحركة والحاجة إلى التهوية في المجتمعات الصناعية كما هو الحال في قاطرة قطعت مسافة كبيرة من الطريق دون توقف وعليها أن تتوقف لتبريد محركاتها من قوة الدفع ، ولكن قاطرة لم تتحرك محركاتها أو في بداية تحركها فهي لا تحتاج إلى التوقف لأن هذا لا يعني تبريد المحركات من السخونة ، ولكنه يعني عدم الرغبة في التحرك ، ولذلك وان جاز لنا أن نلتمس العذر في التهوية لدى بعض شباب العالم الصناعي لا يجوز لنا أن نلتمس العذر في التهوية لدى بعض فئات الشباب في الدول غير الصناعية ، لأن مثلهم في ذلك مثل من يريد أن يستريح من الراحة ، ولذلك على شبابنا أن يكون طموحا متطلعا إلى تحقيق وجوده وتحرير وجوده وتحقيق مجتمع الرفاهية والحياة الكريمة بعد مسيرة طويلة من المعاناة في ظل الاحتلال والدكتاتورية ، ولكن على قاعدة أن لا يتحول الشباب إلى عبيد للرفاهية لأن الرفاهية ليست هدفا في حد ذاتها ، وليست وسيلة حياة تولد المزيد من الرفاهية ، لأن الوصول بالرفاهية إلى حد التطرف يفرغها من محتواها ، ولأن من يغالي في الرفاهية سوف تحرمه مغالاته من الشعور بالتذوق للرفاهية وتدفعه إلى الملل ، ولأن من يغالي في الرفاهية يمكن أن يدفعه ذلك إلى السقوط والاستلاب ، ولذلك يجب أن يكون خيار شبابنا رفاهية في وطن حر تحت راية الحقوق الوطنية ، وحياة كريمة في ظل ثقافة المقاومة ، وذلك بفضل وسطية واعية تجعل من الرفاهية وسيلة للحياة الديمقراطية لا هدفا غائيا لها ، ولكن ليس رفاهية استلابية لأن العيش الطبيعي في ظل ظروف غير طبيعية عيش غير شريف ، ونحن نعيش في ظل ظروف غير طبيعية ونرى مظاهر هذه الرفاهية الاستلابية والانحلال في الطبقة السياسية الفلسطينية ، وهو انحلال مدروس تصدره لنا الولاياتالمتحدة الأميركية والدول المانحة وفق سياسة منهجية مدروسة لأن الانحلال لا يمكن أن يقاوم الاحتلال وإذا قاوم لن ينتصر. حرية الاختيار الأسري قضية حرية الاختيار الأسري و شريك و شريكة الحياة قضية تحتاج إلى قدر كبير من الصراحة ، وهي في نفس الوقت قضية مشروطة بشروط الإطار الزمني، لأن مقياس الزواج يختلف باختلاف الفئات العمرية ، في العشرينات يكون مقياس الاختيار هو العامل البيولوجي المشبع بالعاطفة ، وفي الثلاثينات يكون مقياس الاختيار هو العاطفة المشبعة بالغريزة أو المصلحة المشبعة بالغريزة ، ولكن فشل الاختيار لا يتوقف عند شروط الإطار الزمني بقدر ما يتوقف على ما ينتظره الشاب من الفتاة وما تنتظره الفتاة من الشاب ، وعلى مدي تغلب نقاط الاتفاق على نقاط الاختلاف بين الشاب والفتاة ، لأن بعض الشباب والفتيات لا يعرفون انسفهم ولا يعرفون ماذا يريدون ، ومن لا يعرف نفسه لا يمكن أن يعرف الآخر ، ومن لا يعرف ما يريد لا يمكن أن يعرف ما يريد الآخر ، ولذلك نرى الكثير من الشباب والفتيات يتركون للآخرين وخاصة الوالدين أن يختارون لهم شريك أو شريكة الحياة وحتى توجيههم في معايير الفشل والنجاح في الحياة الزوجية ، لكن وعي الشاب بحقيقة دور الفتاة ووعي الفتاة بحقيقة دور الشاب وما يطرأ على دور الشاب والفتاة من تغيرات فرضتها الحياة المعاصرة قد بساعد كثيرا في صحة الاختيار ، خاصة وان تعليم الفتاة ومشاركتها جنبا إلى جنب مع الشاب في المجتمع والأسرة فرضت على الشاب أن يتنازل عن حقوقه المطلقة على الفتاة والاتجاه نحو المعادلة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات ، وهكذا أصبح للفتاة دور مزدوج في الأسرة والمجتمع ، في الأسرة كشريكة وفي المجتمع كعضو ، ولكن على الفتاة أن تعي أنها قبل أن تكون عضوا في المجتمع هي أم لأسرة وزوجة لزوج ، ويجب أن تعي أن الحق الاجتماعي كعضو في المجتمع مكمل للحق الطبيعي كأم وزوجة حرية الاختيار السلوكي السلوك هو أي نشاط جسمي عقلي اجتماعي أو انفعالي يصدر من الإنسان نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته وعلاقاته بمن حوله وما حوله ، والسلوك له قواعد طبيعية ومادية مبرمجة طبقا للخريطة الوراثية المرسومة لكل إنسان وفقا للترتيب الوراثي والبيولوجي وصولا إلى هندسة الجينات ، وتشير الدراسات الطبية أيضا إلى وجود علاقة بين الخلل الدماغي وسوء التغذية والعوامل النفسية التي تعود إلى الأسرة والأصدقاء والبيئة الاجتماعية والسياسية ، والمشاكل والاحباطات المتراكمة الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاضطراب السلوكي ، كما تشير الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن خلف كل سلوك دافع ، وخلف كل سلوك نتيجة ، ونحن لا نقوم بأي شيء إلا إذا كان هناك شيء يحركنا للفعل ونتيجة من وراء هذا الفعل ، وهذا يعني أن السلوك يخدم وظيفة أو عدة وظائف في نفس الوقت ، ولذلك وفي مرحلة الشباب ، مرحلة تكامل النمو الجسدي ونضوجه واكتمال طاقنه يجب على الشباب أن يتجه إلى السلوك المتزن الذي يخدم وظيفة أو أكثر ويؤدي إلى نتيجة أو أكثر ، ولذلك أيضا يجب علي الشباب أن يلتزم بالتعقل والثقافة والاستيعاب والوعي والصبر ، وتبني الاتجاهات السليمة ، لأن العلاقات الاجتماعية واقع معقد بسبب كثافة هذه العلاقات وتداخلها وتعدد أبعادها وتناقضها في كثير من الأحيان ، ولذلك وحتى يكون السلوك سويا لا بد من التروي والابتعاد عن المجازفات الفورية والتلقائية في اتخاذ المواقف وتبني الاتجاهات ، لكن هذا الجيل جيل ما فوق الايدولوجيا الذي يؤمن بأنه لا يجب أن ينتظم في حزب أو كيان أيديولوجي ، ويعتقد أنه يستطيع توحيد جميع القوى المؤدلجة تحت راية ما فوق الايدولوجيا ، وهذا عكس منطق السياسة لأن منطق السياسة التقليدية يقضي أن تحتوي الأفكار اللاافكار لا أن تحتوي اللاافكار الأفكار ، وأن تحتوي الايدولوجيا اللاايديولوجيا لا أن تحتوي اللاايديولوجيا الايديولوجيا ، وفي ظل هذه الفكرة المسيطرة على الثورات العربية ، والحركة الشبابية الفلسطينية وخاصة حركة شباب 15 آذار التي ترفع شعار الشعب يريد إنهاء الانقسام والتطبيع ، والذين اتحدوا غالبا عن طريق الصدفة أو العلاقات الشخصية أو الانترنت أو الفيس بوك أو التويتر ، أصبحت القوى المحركة لهذه الحركات هي الشباب غير المسيس وغير المؤدلج في نفس الوقت ، وبالتالي نشأت حالة من الفراغ الفكري والأيديولوجي والسياسي في وسط هذه الحركات وفي وسط قيادة هذه الحركات ، ولذلك وعلى الرغم من أنني أتمنى من كل قلبي وحواسي المسكونة بحب الوطن والإنسانية أن يأتي التغيير والثورة من هذا الجيل ، جيل ما فوق الايدولوجيا ، إلا أنني لا اشك مطلقا في أن يأتي هذا التغيير وهذه الثورة من هذا الجيل ( جيل ما فوق الايدولوجيا غير المؤدلج ) ، وقد قدمت الثورات العربية دروسا تاريخية لا يمكن تجاوزها في مستقبل الأحداث العربية ، وان كان من السابق تقديم قراءة نهائية لما حدث في هذه الثورات إلا أن هناك حقائق لا يمكن تجاوزها مهما كانت التطورات التي يمكن أن تحدث في المدى المنظور ، ومن أهم هذه الحقائق 1 – أن القوى السياسية والحركات الإيديولوجية ومؤسسات المجتمع المدني لم تلعب الدور الريادي الأول في انطلاقة هذه الثورات ، وهذا يعني أنه يجب مراجعة التاريخ السياسي لهذه القوى والحركات الأيديولوجية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ، ومراجعة طريقة تواصلها مع الجماهير ، لأن هذه القوى والحركات والأحزاب السياسية لم تعد هي الوسيلة الأولى والأساسية في إيصال المعلومة السياسية للجماهير ومن ثم تعبئتها وتنظيمها ، لأن الجماهير تعيش في زمن العلاقات الشبكية ، ولذلك يجب مراجعة التاريخ السياسي وطريقة العمل الحزبية التقليدية ، لأنه لا يمكن الاستمرار في الطريقة السابقة. 2 – كسرت الصورة النمطية التقليدية للشباب العربي التي كانت تقسمهم إلى قسمين ، شباب الانترنت ( الوصوليين ) والشباب اللا انترنت ( الأصوليين ) ، لكن هذه الثورات جاءت لتبرز صورة مختلفة للشباب العربي تبشر بمستقبل مشرق خاصة وإن هؤلاء الشباب نجحوا في ميادين فشلت فيها القوى السياسية التقليدية ، ونجحوا في إرباك الفكر السياسي التقليدي الذي كان يرشح فاعلين آخرين للثورة ، فجاءت الثورة على يد فاعلين آخرين غيرهم وهم الشباب ، وليس على يد الطبقة العاملة أو الطليعة ، وهذا يعني بروز قيادة ميدانية أخذت على عاتقها مسؤولية القيادة الميدانية بعيدا عن التنظير وهو ما أدى إلى ابتكار أساليب نضالية جديدة سببت الحيرة والتردد والإرباك للنخب الفكرية والسياسية في السلطة والمعارضة . 3 – كسرت نموذج الدولة الدكتاتورية التسلطية الأمنية البيروقراطية الشمولية الكليانية الريعية التي تستجر الريع من خلال السلطة السياسية ( التوتاليتارية ) وبالإضافة إلى كل ذلك هي الدولة التي تخترق المجتمع من خلال آلياته الذاتية وتمتلكه بنيويا ، بحيث يكون القمع العاري الوسيلة الموازية وليس النوعية لهذا التملك البنيوي للفعل من الداخل ، وهي ليست كما يتصور البعض تناسل ميكانيكي عن الدولة الدكتاتورية ، ولكنها اكبر من ذلك وبالإضافة إلى ذلك هي الدولة التي تتداخل مع المجتمع إلى حد تحولها إلى نظام داخلي للمجتمع ، والى حد طغيان المستوى السياسي على المستوى الاجتماعي طغيانا لا حد له ، وقد يصل في نهايته المنطقية والعملية إلى ابتلاع المجتمع أو جعله في أحسن الأحوال ملحق عضوي بالمستوى السياسي ، ولذلك تعمل هذه الدولة بلا كلل أو ملل وبكل الوسائل حتى اللااخلاقية على التدمير المنهجي المنظم لكل أشكال التنظيم الاجتماعي وفرض قسري تنظيمات بديلة لها بالقوة ، وهو ما يؤدي إلى الهيمنة الشاملة للدولة على المجتمع والفرد ، وإقامة نظام بنيوي أحادي يتحول فيه المجتمع إلى قطيع ليس أمامه إلا الخضوع والطاعة العمياء من جهة ، ووضع عقول الأفراد في حالة عبودية من جهة أخرى .. 4 – كشفت عن دور الإعلام الذي وان كان لا يقود هذه الثورات إلا أنه كان يغطي هذه الثورات بشكل ايجابي ساهم بشكل فعال في إنجاحها . 5 – خلقت مناخ أكثر ملائمة لدعوة إلى حالة وحدوية في الأمة العربية . 6 - رفعت شعارات وطنية وقومية واجتماعية وإنسانية ، وكانت التعددية واضحة في خطابها الذي كان يشتمل على شعارات دينية وعلمانية وليبرالية ويسارية ويمينية وإسلامية ومسيحية والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات . 7 – كانت بدون نظرية ثورية وبدون ثقافة ثورية ، وكسرت مفاهيم ومسلمات وبديهيات سادت مثل مقولة ( أن الثورة لا يمكن أن تتحقق إذا لم تتوفر لها قيادة ملهمة ) ومقولة ( أن الثورة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت تحت قيادة حزب طليعي ) ومقولة ( أن الثورة لا يمكن أن تتحقق في ظل نظام دكتاتوري شمولي بدون تدخل الجيش ) ومقولة ( أن القوى الداخلية ليس بإمكانها انجاز الثورة بدون مساعدة من الخارج ) 8 – كسرت معادلة تحالف السياسة مع المال وسيطرة السوق على السياسة وأظهرت تعلق الفئات الشعبية بالدولة الاجتماعية 9 – كشفت عن إمكانية أن تحتوي اللاافكار الأفكار واللاايديولوجيا الايديولوجيا 10 – كشفت عن حقيقة جديدة وخطيرة جدا وهي أن حركة الجماهير كانت أوسع من حركة الأطر ( الأحزاب ) التي كانت تتضمنها ، ولذلك كسرت هذه الأطر التي كانت تطوقها وخرجت إلى الساحات والميادين ، وبالتالي لم يكن إمام هذه الأحزاب إلا أن تركض وراء هذه الجماهير حتى تفتح لها نافذة على المستقبل 11 – كشفت أن انهيار النظم الدكتاتورية الشمولية لا يكفي لولادة ديمقراطية تعددية تعكس الالتزام بمبادئ الديمقراطية الأساسية ، ولكنه قد يفتح الباب لحقبة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار والحروب الأهلية ، والسؤال لا يجب أن يكون ما هو مصير الأنظمة ، لأن مصير الأنظمة قد حسم نهائيا مع تبدل الشروط الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي كانت تشكل أسباب وجوده ، وأسباب استمرار وجودها ، ولكن السؤال يجب أن يكون من يجب أن يستلم السلطة السياسية ، وما هي الحدود التي يجب أن تكون للسلطة السياسية مع وجود أي كان فيها .. 12 – كشفت تداعيات مضاعفات الأزمة العربية وإسقاطاتها على الدول الصناعية التي كانت ترعى هذه الأنظمة الدكتاتورية الشمولية وخاصة الولاياتالمتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي التي كانت تخطط لخلق قيادات جديدة في الوطن العربي من خلال منظمات المجتمع المدني ، وتدخل هذه الدول في الواقع العربي الجديد وبغطاء من الجامعة العربية والأممالمتحدة . 13 – كشفت عن حقيقة جديدة وهي انه لم يعد بوسع الولاياتالمتحدة الأميركية أن تحمي أي نظام شمولي بعد ذلك ، وليس بوسع الولاياتالمتحدة الأميركية أن تملي على المنطقة من يحكم هذا الإقليم أو ذاك الإقليم بعد ذلك . http://yousefhijazi.maktoobblog.com