عام 1997 كتبت مقال «ماذا لو كانت ليلى علوى سوداء؟!»، نُشر فى المواقع النوبية، أحدث أثراً مدوياً كنت أتوقعه، فنحن السمر/السود، بنا جُرح دامٍ من كثرة إهانة لوننا. المقال يقول إن ليلى علوى جميلة، لكن لنفترض أن «ليلى» بنفس جسمها ورسمها كانت سوداء هل كانت ستصير من أهم الممثلات؟ وهل كانت ستعد أصلاً من الجميلات؟ بالطبع لا هذا ولا ذاك، ففى مصر الجميلة هى الأكثر بياضاً، ولو كانت مشلفطة، والسمراء قبيحة ولو كانت مسمسمة ومستوية. هذا ليس بالقانون المسطور، لكنه القانون الوجدانى السائد، فلا مذيعات أو مذيعين سمراً/سوداً فى قنوات مصر، وكأن مصر جارة السويد «الحيط فى الحيط»! من سنوات تكرم الوجدان المصرى وتنازل وقبل مذيعاً أو اثنين أسمرين «بس على خفيف». مصر تشعر بالدونية تجاه الجمال الآتى من دول شقراء استعمرتنا، وعليه صار البياض هو «القمارة» -من القَمر- والسواد هو الخسارة. وزمان، العرب قسموا البلدان بناء على اللون، فقالوا بلاد السودان، أى بلاد السود، والبيضان، أى بلاد البيض، حقيقة هذه العنصرية اللونية بهتت كثيراً. خلال نهايات الخمسينات وبدايات الستينات من القرن الماضى كنت شاباً وكان التعالى اللونى واضحاً، وبكل أسف كنا نحن السمر/السود فى الغالب قد رضخنا له، فحين استملحتنى سكندرية إيطالية، اعتقدت أنها تسخر منى، فهل مثلها وهى الشقراء المائلة للسمنة، وهذا الصنف «يهبل» الشرقيين عموماً، هل لكل هذا الجمال أن يعجب بشاب أسمر وكمان فقير مثلى؟ وحين صادقت الشاعر السودانى المصرى الليبى محمد الفيتورى وجدته قد مر بنفس ما مررت به (مررت من المرور ومن المرارة أيضاً)، فقد كتب الكثير من الأشعار عن عقدة اللون، ومن أشهر أبياته: «فقير أجل.. ودميم دميم بلون الشتاء بلون الغيوم»، هذا وهو مراهق وشاب يافع، لكنه مع السنوات تبدل وصار واثقاً من نفسه كرجل وسيم. وهذا حصل معى واكتسبت ثقة، وزودتها حبتين فوصلت الثقة لقرب حد الغرور، رد الفعل مساوٍ لما مضى. الغريب أنه فى نهايات القرن الماضى، وبينما كانت السمراوات متلهفات على كريمات مبيضات البشرة، كانت القمحيات المصريات أيضاً متلهفات عليها، ومنهمكات فى صبغ شعرهن بالأصفر الذهبى، غريبة! كل نساء العالم عندما يشبن يتحول شعرهن من الأسود إلى الأبيض، فيما عدا نساء مصر، هن وحدهن اللاتى يتحول شعرهن من الأسود إلى الأصفر! وشاهد ممثلاتنا الفاتنات فى أفلامهن القديمة ثم الحديثة ليتبين لك الأمر. يدافع البعض قائلاً إن أغلبية المصريين سُمر! أقول: لا، سمار عن سمار يفرق، يقال مثلاً عن الفنان عبدالحليم حافظ «العندليب الأسمر»، وعن الممثلة القديمة «إيمان» «سمراء النيل»، فهل «حليم» و«إيمان» سمراوان مثلى أنا و«الفيتورى»؟ حين تغنى مصر للأسمر فهى تقصد سُمرة «حليم» و«إيمان»، وحين تتعالى على الأسمر فهى تقصد من هم على لونى ولون «الفيتورى». ويدافع البعض قائلاً إن أحمد زكى (رحمه الله) و«منير» من أحب نجوم مصر للمصريين، أقول: حقاً، لكن تم رفض أحمد زكى أولاً ثم بموهبته فرض نفسه فتقبلوه، نفس الشىء مع «منير». قلت من قبل إن التمييز ضد اللون خفّ كثيراً عن ذى قبل، خف لأسباب داخلية وخارجية؛ من الداخل: النوبيون بعد أن هُجِّروا إلى المدن، وعملوا فى نوعية من الأعمال كانت الأفضل وقتها نسبة للآتين من الأقاليم، ثم بدأوا يحسنون اللغة العربية ويتعلمون ويصلون للمراكز الوظيفية الجيدة، وظهر فيهم أدباء وفنانون - أجبروا غيرهم أن يبدلوا نظرتهم المتعالية. من الخارج: كان نضال مارتن لوثر كنج وغيره لنيل الحقوق المدنية، وكان لها أثر كبير فى أمريكا وخارجها. وفى السينما الأمريكية، فازت الممثلة هاتى ماكدانييل بالأوسكار عن دورها كعبدة فى فيلم «ذهب مع الريح»، فهذه مكانة السود وقتها. ثم يتطور الأمر فإذا بفيلم «خَمِّن مَنِ الآتى للعشاء»، وحكايته أن فتاة شقراء تعيش بعيداً، تبلغ عائلتها أنها قادمة ومعها خطيبها، العائلة تستعد بعشاء، فإذا بخطيبها أمريكى أسود! لكنه الأسود المختلف، شاب طويل رشيق وسيم أنيق، ويحمل شهادة الدكتوراه، قام بالدور سيدنى بواتييه الذى نال الأوسكار بعد ذلك، إنها نقلة حقيقية حقوقية. وظهر الرياضيون الأمريكان الأفارقة، خاصة «كلاى» بحضوره الطاغى، فأثروا فى مكانة السود فى العالم إيجابياً. التطور فى أمريكا أثر فى مصر التى كانت تنظر لعثمان عبدالباسط، على أنه النموذج للسمر/السود، وشهرته «بربرى مصر». ومع التأثيرات الداخلية والخارجية ظهر أحمد زكى ومحمد منير كما بينت عاليه، ولولا ثقل موهبتهما لما استطاعا الوصول إلى مكانتهما العالية، وإن كانا قد ظهرا قبل موعدهما بسنوات، لما سمح لهما المجتمع أن يكونا بمثل هذا السطوع، أحمد زكى فى أفلامه يكون حبيباً لأجمل ممثلات مصر! وكذا محمد منير! ومِن تلكم الممثلات الجميلات ليلى علوى! النوبة ثقافة فى دواخلها تاريخ وجغرافيا وتراث تليد ولون مميز، لذلك كانت فرحة النوبيين عارمة ببنود الدستور التى تشير للتعددية الثقافية فى مصر، والتى تُجرم أشكال التمييز بما فيه اللون، لا يتخيل غير السمر/السود مدى غضبهم من السخرية اللونية، ولا يتخيل غيرهم مدى ترحيبهم بتجريم السخرية من اللون. النوبة قالت قبل غيرها، وستؤكد قولها بصيحات عالية فى لقاءات حاشدة: لدستور مصر.. «إيّو» لدستور الكرامة.. «إيّو» لدستور العودة.. «إيّو» وتحيا مصر