لم يكن الفكر السياسى السنى يوما فكر جماهير وإنما هو «فكر» نتاج ثقافة الفقهاء المتحالفين مع أنظمة الحكم التى تتناقض أساسا مع مبادئ الإسلام فى الحرية والعدالة ومكافحة الظالم، ومن ثم فإن هذا الفكر هو فكر الفقهاء وليس فكر الإسلام.. والواقع هو أن المسلمين لم يعرفوا العدل إلا نادرا، وأن فقهاءهم لم يكتفوا بالصمت إزاء ظلم الحكام بل برروا ذلك لهم، وشرعنوا لهم القمع بما لا يخالف شرع الله واستخرجوا من القرآن الكريم آيات وفسروها بما يخدم مصلحة الحاكم ومصلحتهم (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم). ولذلك كان من المؤسف أن يؤدى ذلك إلى تكريس التلازم غير الصحيح بين الإسلام من ناحية وبين الاستبداد والتطرف والاستحلال (القتل وقهر الآخر) من ناحية أخرى وما يترتب على ذلك من آثار ومنها تشويه صورة الإسلام فى الغرب بسبب مواقف هؤلاء. هذه هى النتيجة التى يمكن أن تخرج بها من قراءة كتاب «تطور الفكر السنى» للكاتب اللبنانى أحمد الكاتب الذى يستعرض فيه الآثار المدمرة ل«فكر» هؤلاء الفقهاء والمدعين باسم الدين الحنيف، ليس فقط على المسلمين والمجتمعات والدولة الإسلامية بل على الإسلام نفسه. وقد تختلف مع هذا الاستخلاص.. لكن تريث وانظر ماذا لحق بالمصريين مسلمين ومسيحيين وبالدولة والمجتمع من جراء ممالأة الفقهاء للحاكم رئيساً أو ملكاً أو سلطاناً، وخلال عام واحد تحت حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، لتدرك كم أضرت ثقافة هؤلاء وحسن البنا وأتباعه من «فقهاء العصر» بالدولة وبالإسلام على مدى أكثر من ثمانية عقود، الأمر الذى يدعونا إلى مناقشة ما جاء فى هذا الكتاب. لقد أدرك علماء مصر فى نهاية القرن ال19 أن سر تخلف المسلمين يكمن فى أنظمة الاستبداد فحاولوا القيام بثورة فى أصول الفكر السياسى السنى ودعوا إلى قيام أنظمة حكم على أساس مبدأ الشورى بما تعنيه من مشاركة شعبية وعدالة ومراقبة للحكام ومحاسبتهم وتداول للسلطة بالوسائل السلمية، ومن ثم أيدوا ثورة الزعيم المصرى أحمد عرابى، لكن هذه الجهود باءت بالفشل بسبب «فقهاء السلطان» الذين أفتوا بزندقة «عرابى» وبهرطقة أصحاب الدعوة للشورى وأسسوا لإصدار الخديوى توفيق فرمانا من دولة الخلافة العثمانية يعتبر «عرابى» ومؤيديه «زنادقة». لا نقاش -بطبيعة الحال- فى كمال الإسلام الذى وضع القيم والمبادئ والقوانين العامة وترك للمسلمين تنظيم علاقتهم الداخلية والسياسية، ومن ثم ترك باب الاجتهاد مفتوحا لما يناسب العصر زمانا ومكانا. ومن ثم فإن تطور المجتمعات الإسلامية نحو الشورى (الديمقراطية) يمر عبر نقد الفكر السياسى القائم أولا الذى سهل للطغاة حكم بلاد المسلمين.. (فى التجربة المصرية بعد ثورة 25 يناير فقد تم السير عكس كل دروس التاريخ وتجارب الاستبداد باسم الدين؛ فقد سهل البعض تمكين هذا «الفكر» الرجعى من حكم مصر). وعلى ذلك ينبغى فك الارتباط بين الخلفاء الراشدين وبين من أتى من بعدهم، فيؤكد الإمام أبوحنيفة النعمان أن «الخلافة» (الحكم) لا تكون إلا بإجماع المسلمين ومشورتهم ومرهونة ب«الرضا العام»، ويشدد الإمامان الذهبى والسيوطى على مبادئ العدل والرضا، بينما أفتى آخرون بصحة إمامة الفاسق الجاهل بدعوى «أن من اشتدت وطأته وجبت طاعته»؛ فدخلت القوة والخوف وإيثار السلامة فى العقل السياسى الإسلامى وتم تفريغ مبدأ الشورى من محتواه، وأصبح تنصيب الحاكم يتم عبر «أهل الحل والعقد». إن الفكر السياسى الإسلامى عموما، والسنى خصوصا (فكر الفقهاء والمتحذلقين)، وجه أيضاً ضربة قاسمة لمبدأ الديمقراطية فى الإسلام «الشورى» كأحد مقومات الدولة الإسلامية وتطورها، وذلك بإضفاء الشرعية على قانون العهد (الحكم الوراثى) وتضخيم صلاحيات الحاكم مقابل سلب حقوق الشعوب، حتى كاد فقهاء السنة يقولون بعصمة الحاكم فسبقوا فقهاء الشيعة فى اختراعهم عصمة الإمام و«ولاية الفقيه»، فلسان حال فقهاء الطرفين يقول بأن الشورى غير مستحبة وغير ملزمة، فأبعدوا المواطنين عن المشاركة السياسية. تواجه الدول العربية والإسلامية الآن بعد الثورات العربية وفى ضوء تجربة جماعة الإخوان فى مصر وتونس وما يجرى فى سوريا ما واجهته بعد سقوط الخلافة العثمانية، فقد أطلق سقوطها عام 1923 حركة نقدية واسعة للفكر السياسى الإسلامى عموما والسنى خصوصا، بعد ما كان السلطان عبدالحميد الثانى قد رفع شعار «الخلافة فى مواجهة الديمقراطية» فى وجه المطالبين بالإصلاح وبإعمال مبدأ الشورى من أجل بناء فكر جديد وإقامة الدولة الإسلامية الوطنية الحديثة، وظهر فى هذا الإطار الشيخ مصطفى عبدالرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الأمر الذى يتوجب معه إجراء بقية جماعات «الإسلام السياسى» مراجعة إذا كانت هى الأخرى لديها نوايا طيبة، بعدما قررت جماعة الإخوان مواصلة مشوارها الإرهابى. إن الأوضاع فى العالم العربى والإسلامى اليوم تؤكد ما ذهب إليه القادة الإصلاحيون فى القرن ال19، من أن العداء للشورى والديمقراطية وتداول السلطة هو الذى تسبب فى تخلف العرب والمسلمين، وأن عظمة الإسلام تكمن فى أنه أباح للمسلمين استعارة أى تطور سياسى من الحضارات والشعوب الأخرى، ولم يؤسس نظاما سياسيا مفصلا، وترك ذلك لتطور العقل الإنسانى فى الزمان والمكان.